إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

هل ينتهي التحرّش؟

كانت ماتيلد تشتغل مصورة فوتوغرافية. وقد أرسلتها مجلتها الذائعة الصيت لتصوير سياسي معروف. وهو لم يتمالك نفسه أمام شبابها فتحرّش بها. سكتت وكتمت ما حدث لها. والمرأة محكومة بالسكوت تجنباً للفضيحة. لكن الشعور بالمهانة ظلّ يطاردها. هذه هي باختصار فكرة الرواية الجديدة للكاتبة الفرنسية مازارين بنجو، ابنة الرئيس الأسبق ميتران. وقد لا تبدو الفكرة مثيرة أو جديدة، لولا أن المتحرش المقصود في الرواية كان قد فاز بجائزة «نوبل» للسلام. هل الحكاية حقيقية أم مُتخيّلة؟
قبل عقود ثلاثة، قيل إن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن المرأة. إنه العصر الذي ستتحقق فيه إنسانيتها وتنال الحرية والمساواة. ومع تحرير الكلام، تحركت الألسن التي كانت مربوطة، وتبين أن التحرش ليس مجرد غزل لطيف تجاوز الحدود قليلاً. إنه سيف ثقيل مُسلّط على رؤوس النساء في الشارع والحافلة والمكتب والسوق. أنفاس كريهة وكلمات لا تستحي وضغوط يتساوى فيها الشرق والغرب. وها هي الأخبار الواردة من مهرجان أدنبره تشير إلى أن مشكلة التحرش متفاقمة في المهرجان الفني الأكبر في العالم.
ومن أدنبره إلى بغداد مع هذا الخبر: المجلس الأعلى للقضاء يتابع وضع ضوابط واتخاذ إجراءات رادعة لحوادث التحرش التي تحدث داخل مؤسسات الدولة وغيرها. وسبق لقانون العمل العراقي أن تضمّن مادة «تحظر التحرش الجنسي في الاستخدام والمهنة، سواء على صعيد البحث عن عمل أو التدريب المهني أو التشغيل أو شروط العمل وظروفه». وهناك مادة في قانون العقوبات تعاقب بالحبس لمدة سنة، وبغرامة مالية، كل من طلب أموراً مخالفة للآداب. من قال إن كل أخبارنا محزنة؟
في بلادنا العربية، لا تتوقف المناقشات حول قوانين الأحوال الشخصية. وفي الخليج، تقفز المرأة إلى حقوق كانت محرومة منها. مع هذا، ما زال أمام المجتمعات كافة أشواط مديدة، ولم يصبح الحادي والعشرون قرن النساء بعد. الأحلام بعيدة، ولا شيء مضمون. وعندما يتعلق الأمر بالغرائز، فإن التحرش لن ينتهي، وكل ما يمكن عمله هو ضبط التصرفات بحكم قوانين الجزاء. أما اليوم، فإن أغلب التشريعات تتجاهل المُتحرِّش أو تجامله وتؤدي له التحية. تقول له «أبشر بطول سلامة»، وتضع اللوم على عاتق الُمتحَرَّش بها.
كنا نتصور أن الأميركية أو الأوروبية قد بلغت شاطئ الأمان حتى جاء خبر صادم من باريس: 90 امرأة ماتت بالضرب أو السكين أو الرصاص على يد شريك حياتها منذ أول هذه السنة، أي بمعدل قتيلة كل 3 أيام. وما زال أمامنا 4 أشهر لاكتمال السنة. وهو واقع يجعل وزيرة شؤون المرأة تستغيث، وتدعو إلى تنظيم مؤتمر كبير حول العنف الزوجي. وللترويج للمؤتمر، تحولت الوزيرة مارلين شيابا إلى فتاة إعلانات، تظهر في لقطات دعائية تلفزيونية، ونسمعها في رسائل إذاعية. وما بين التحرش والقتل يشبه ما بين العَوَر والعمى.
وعودة إلى واقعة حائز «نوبل» للسلام الذي يتحرش بالنساء، فإنها رواية تقتفي أثر الكتمان على نفسية المرأة. إن السكوت عذاب والكلام فضيحة. كيف يمكن للحياة أن تسير رائقة تحت ضغط سرّ كبير؟ سؤال اختبرته المؤلفة جيداً. ليس هناك من يجيد التعامل مع الموضوع مثل مازارين، الطفلة التي كبرت مختبئة وممنوعة من الظهور مع الرئيس، أو التصريح باسم والدها، وكانت سراً من أسرار الدولة.