سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

«البدائية» طوق نجاة

من عجائب الدنيا أن يهرع الغرب للنبش عن حلول لما اقترفت يداه من تخريب وتدمير للكوكب، في أحضان الشعوب البدائية التي قاتلها باسم «التحضر» و«التمدن» حتى أوشكت على الاندثار. ولما ارتفعت الحرارة بما لا يطاق، وصارت الكوارث الطبيعية من اليوميات، والفيضانات على غير المعتاد، قررت جامعة كامبريدج أن تُجري أبحاثاً عن الشعوب التي لا تزال تحتفظ بعلوم الأجداد، والمعارف المتوارثة، لتكتشف أن هؤلاء لديهم من الحكمة والمعرفة ما لا يملكه أكبر مراكز الدراسات التي صُرف عليها المليارات، ولم تأتِ إلا بمزيد من الاستنزاف للطبيعة. وهذا ليس بجديد، فأنثروبولوجي فذ مثل كلود ليفي ستراوس، كان قد سبق كل هؤلاء البحاثة، لكن تياره بقي ضعيفاً في ظل النظرة الاستعمارية المتغطرسة.
ومن يقرأ الكتاب الذي أصدرته جامعة كامبريدج، بالتعاون مع اليونيسكو العام الماضي، يرى أنه أوصى بـ«ضرورة» فتح حوار بين علماء المناخ وأصحاب المعارف التقليدية، من أجل فهم أفضل لكيفية تحقيق التنمية المستدامة، علماً بأن هذه الشعوب هي نفسها التي تم تدمير مقوماتها، ذات يوم، باسم «التنمية»، مرة ببناء السدود، وأخرى بقطع الأشجار لزرع غابات من الباطون، وغيرها بتلويث البحار.
أما وإن مفهوم «التنمية» صار محيّراً بعد أن فُقدت البوصلة، فالاتجاه الجديد هو العودة إلى نبع الأجداد، لأن الأبناء أو بعضهم، أدركوا أنهم ضلوا الطريق.
ومن باب السير في الخط نفسه، خصصت اليونيسكو العام الحالي كسنة دولية للغات الشعوب الأصلية، على اعتبار أن اللغة هي حاملة المفاهيم وقالب الفكر وبها يترجم الإنسان قوله عن مهاراته وما يدور في خلده. وبالتالي فعند اليونيسكو اللغة والمعرفة، هما أمر واحد. وبدء اندثار آلاف اللغات هو اختفاء لتجارب أهلها، التي فيها من المهارات ما يمكنه أن ينقذ الأرض من همجية الاستنزاف الاستهلاكي المتوحش.
في فيجي مثلاً، سكان أصليون، هم شعب من الملاحين، أدركوا قبل غيرهم أنهم وُضعوا رغماً عنهم، في الخطوط الأمامية لمواجهة تغيير المناخ علماً بأنهم ليسوا مَن خرّب ولا لوّث ودمّر. وهذا سبب غضبهم. يقولون إنهم وجدوا أنفسهم محرومين من شعابهم المرجانية التي ابيضّ لونها، ومن محيطاتهم التي أصبحت خليطاً من الحمض والبلاستيكيات، ومخزوناتهم من المياه تُهدر. وبكلمتين حُرم هؤلاء من أبسط حقوقهم في الحياة والاستمرار، من دون ناقة لهم ولا جمل.
ومن المحزن أن تقرأ ما كتبه ناشط فيجي، عن كيف أن مراكبهم الشراعية التي برعوا في بنائها من حواضر بيئتهم، وسابقوا بها الرياح، كانت عند وصول الأوروبيين إلى المحيط أكبر المراكب وأسرعها في العالم. وفي القرن الثامن عشر، كتب الربان كوك ما يلي: «كانت (توي تونغا) تحوم حول مركبنا كما لو كان مركبنا راسياً». و«توي تونغا» هي سفينة فيجية محلية الصنع من جزر لو. وحسبما يقول الناشط الشاب، الذي يدافع هذه الأيام، عما تبقى من حضارته، كانت تلك السفينة «أكبر من مركب كوك وتبلغ سرعتها ثلاثة أضعاف سرعته، وطاقمها يفوق طاقمه عدداً. كانت قادرة على الإبحار وهي ملتصقة بالرياح، تماماً كالسفن العصرية». ومع ذلك فقد السكان مراكبهم الذكية بالفطرة، وها هم يحاولون إحياءها.
البحث عن الخبرات القديمة لالتقاطها جارٍ على قدم وساق، وتم رصد مهارة أقلية عرقية صينية تعيش في مقاطعة كونغجيانغ، لها براعة غير عادية في استغلال أرضها المحدودة الصالحة للزراعة، باعتماد نظام يسمونه «تآزر أرز - سمك - بط» بحيث يزرعون الأرز فيما يتاح لهم من الأرض، ولما كان هذا النوع من المحاصيل يحتاج إلى أن يغرق بالماء، فهم يربّون فيها الأسماك الصغيرة، وما إن تكبر قليلاً وتصبح عصية على الابتلاع، يضعون معها البط. وهذا النظام يعود إلى 225 سنة قبل الميلاد. واللافت في هذه الطريقة أنها تحافظ على التوازن البيئي، ولا تحتاج المزروعات إلى أي مبيدات، ولا تصاب بالآفات، ويتم إنتاح النبات واللحم والسمك في مساحة اقتصادية ومحدودة.
وفي خضمّ الاهتمام الجديد بثقافة السكان الأصليين، تتم الإفادة من تجارب مجتمع الميشتاك في المكسيك الذي له أساليبه الخاصة في معاينة الأحوال الجوية، ويعرف الأهالي هناك من طبيعة صوت عصافير الشيكوكو، إذا كان موسم الجفاف قد انتهى أم ليس بعد. ويزرعون الذرة تبعاً لما تقوله لهم أوراق شجرة العرعر، فإن ظهر عليها الغبار كان ذلك نذيراً بضرورة تأجيل موسم الزرع. ويبدو أن المجتمعات التي تتناغم مع الطبيعة، وتُصغي لما تقوله العصافير، وما تريده النباتات، هي آخر ما تبقّى للمتحضرين الخائبين للخروج من مأزقهم.
حين تعرف أن المتبقي من سكان يُصنّفون اليوم على أنهم أصليون هم فقط 5% من العالم، قد تظن أن المسألة قد انقضت، وأنْ لا رجاء، لكن الجهود كبيرة، وإن كانت ليست بالقدر المطلوب، لتسجيل التراث، وبث الإذاعات المحلية التي تتكلم باللغات الأصلية وتمويلها، والأبحاث مستمرة، والتواصل مع هذه الشعوب لا ينقطع. لكن المشكلة الأساس هي في السياسات الكبرى لدول ترى أن كل مختلف خطر، ويتوجب القضاء عليه بدل الإفادة منه.
المعركة مستحقة... يقال إن هذه الشعوب تقبض على 80% من التنوع البيولوجي المتبقي للإنسانية. أما نحن الذين لم نعد نعرف إن كنا أصليين أم مزيفين وربما مشوهين، ونشبه كل الآخرين، فخبرتنا لا تشكل إلا أقل من ربع مخزون البشرية الثقافي.