توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

كي لا يكون النص ضداً للعقل

أفكِّرُ أحياناً أن الجدل المعاصر حول القيمة النسبية لكل من العقل والنص في تكوين الفكر الديني، يرجع جزئياً على الأقل، إلى مشكلة أخرى يشار إليها ولا يصرح بها، أعني بها الحاجة إلى الفصل بين الأفكار والأشخاص، وتوليف منظومة فكرية وقانونية وأخلاقية تعتمد على استدلال معياري، وليس على النسبة إلى أشخاص بعينهم.
ما دفعنا لإثارة المسألة هو أن الاستدلال بآراء علماء الدين المتقدمين والمتأخرين، تحوّل إلى تمهيد ضمني لمنع مجادلة آرائهم أو نقد منهجهم في الاستدلال. ويبدو أن مقاومة النقد قد جرى تمديده إلى كل شخص أو فكرة أو موقف له علاقة بالدين، ولو على سبيل الظن والاحتمال، حتى لو كان من العادات أو عرضيات الشريعة ومتغيراتها.
وأحدث الشواهد ما حدث في عيد الأضحى. فقد تحدث أحد الخطباء في السعودية عن عمل النساء واعتبره نوعاً من السقوط. وزارة الشؤون الإسلامية تبرأت من الخطيب وخطبته. لكن عشرات الناس نصبوا أنفسهم مدافعين عنه وعمَّا قال، لأنهم رأوا فيه دفاعاً عن سنة جارية، يسندها إجماع العلماء في العصور الماضية.
والحق أن الجدل حول عمل النساء لا موضوع له أصلاً. لأن العمل ذاته من الفضائل التي حثَّ عليها الشارع المقدس. ولم يرد تمييز بين العاملين على أساس جنسي، عدا ما نقل عن فقهاء من آراء يرجح أنها متأثرة بالظرف الاجتماعي الذي كانوا يعيشونه، أي أنها آراء في قضايا، وليست حقائق شرعية قائمة بذاتها.
بيان ذلك أن الأحكام الشرعية نوعان؛ أحكام عامة تتناول فعلاً أو حالة، غير مقيدين بظرف بعينه، وتسمى هذه القضايا الحقيقية، كشرب الخمر أو أكل الخنزير مثلاً، فهذه حرام بذاتها في أي ظرف.
أما النوع الثاني ويعرف بالقضايا الخارجية، فيضم الأحكام المشروطة بظرف خاص. وهي تتغير بحسب الظرف الزماني والمكاني. ومنها مثلاً غالبية الأحكام المتعلقة بالمال والتجارة، والعقوبات التعزيرية، وأمثالها من الأحكام التي تستهدف مصالح عامة، تتغير تبعاً لتغير الظروف الاقتصادية والسياسية.
إن ما نقله خطيب يوم العيد من نصوص وآراء فقهية، لا يخرج أي منها عن دائرة النوع الثاني، أي الأحكام والآراء التي قيلت في ظرف محدد، تحت تأثير عوامل خاصة، فلا يصح تمديدها إلى ما يجاوز هذا الإطار.
بالنسبة لمن ألِف التراثَ الفقهي فإن «أسماء» الفقهاء الذين تبنوا فكرة ما، تعتبر أَمارةً على سلامة الفكرة، ولو كانت – بمقاييس هذا الزمان – غير معقولة، مثل ذلك الواعظ الذي زعم أن الأرض تقف على قرن ثور، لأن قولاً كهذا روي عن علي بن أبي طالب. ومثله الذي اعتبر خروج المرأة للعمل سبباً للزلازل والخسوف والكسوف، لأن فقيهاً معروفاً نسب هذا الرأي إلى رواية عن النبي.
زبدة القول إننا بحاجة إلى فكِّ هذا الترابط غير الضروري، بين الرأي العلمي في الدين وبين قائله، سواء أكان نصاً أم حكماً في مسألة. أما الغرض من هذه الدعوة فهو التوصل إلى تقييم لمضمون الآراء، بناء على معايير علمية يقبلها عامة العقلاء، وليس بناء على اسم القائل. إن الإصرار على أن صحة الرأي مبنية على نسبته إلى فلان أو علان، يضعنا في حرج حين يتعلق الأمر بآراء غير معقولة، أو جارحة لمشاعر العقلاء، كما حصل في خطبة العيد المذكورة.