د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

بريطانيا: من أوروبا إلى الأطلسي

عشنا الزمن الذي راقبنا فيه الانتخابات الأوروبية والأميركية والعالم الغربي من زاويتين: الأولى؛ ماذا يعني فوز فريق أو حزب أو شخص على آخر؟ وهل هو انتقال من اليمين إلى اليسار أو هو درجة من اليمين إلى اليمين، واليسار إلى اليسار؟ واعتدنا كثيرا أن يكون الحديث عن يسار الوسط ويمينه ووسطه. كان ذلك يعني أن الفروقات في الدرجة، وساعتها سوف تكون معتمدة على شخصية رئيس الوزراء أو وزير الخارجية. والثانية؛ ما موقف القادمين إلى السلطة من الصراع العربي - الإسرائيلي وهل هم من المنتمين إلى مدرسة ضرورة حل الصراع؛ أو الذين يعتقدون في غنيمة البعد عن صراع ليس له حل؟ الزمن تغير كثيراً الآن، ولم تعد مسألة التغيير تعني أياً من التعبيرات السابقة، فهو ليس انتقالاً من اليمين إلى اليسار أو العكس، وترجمة ذلك في المصطلحات الغربية بين العمال والمحافظين، أو بين الجمهوريين والديمقراطيين، أو بين الديمقراطيين المسيحيين والديمقراطيين الاشتراكيين، أو ما يشابهها من أسماء تعتمد على النظام السياسي في كل دولة، وعلى تاريخ تطور الدولة فيها. التغيير الآن هو الانتقال من البندول السياسي كله بين اليمن واليسار إلى الانتقال من اليمين إلى اليمين المتطرف.
هذا ليس انتقالا من وسط اليمين إلى يمين اليمين، هو الخروج من اليمين التقليدي الأميركي (الحزب الجمهوري) أو التقليدي البريطاني (حزب المحافظين) إلى مساحة جديدة من المتطرفين المتمردين على المؤسسات القائمة، بل إنهم رافضون لها، وهم يستغلون النظام الديمقراطي وأدواته الانتخابية لكي يصلوا إلى السلطة ويستخدموا أدواتها وانتهازية الساسة فيها لكي يضعوا القواعد لسياسات جديدة داخلية وخارجية لها شعاراتها وبيارقها. وفي معظم الأحوال فإنها متمردة بشدة على ثلاثة أمور: أولها الليبرالية في شكلها الذي وصلت إليه في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؛ وتخفيضها لكيلا تزيد على شرعية الآليات الديمقراطية التي أخذتهم إلى السلطة. وثانيها احتقار كل ما له علاقة باليسار والاشتراكية واعتباره سبة وانحرافاً في أحسن الأحوال؛ وخيانة وخروجاً على الوطنية في أسوئها. وثالثها العولمة وما ترتب عليها من منظمات ومؤسسات دولية متعددة الأطراف؛ والأهم تقاليد دولية للتعامل مع المشكلات العالمية المعاصرة من الهجرة إلى الاحتباس الحراري.
انتخاب بوريس جونسون رئيساً لحزب المحافظين البريطاني، ثم رئيساً للوزراء، يعود أولا إلى بريطانيا التي كانت بعد الحرب العالمية الثانية وفي الخمسينات من القرن الماضي والتي كانت تنظر إلى أوروبا وعملية اتحادها ليس فقط بدرجة كبيرة من الشك والتقليل من الشأن، وإنما باعتبارها محكوما عليها بالفشل. وثانيا إلى أن المجال السياسي لبريطانيا هو المحيط الأطلنطي والعلاقة «الخاصة» مع الولايات المتحدة، حيث الرابطة الأنغلو - ساكسونية واللغة الإنجليزية. انتهت تماما أيام الخروج الأميركي من المستعمرات البريطانية نتيجة الثورة الأميركية، وحرب 1812 وما بقي هو التجربة المشتركة والدماء التي سالت في الحربين العالميتين الأولي والثانية. رئيس الوزراء الجديد يختلف كثيرا عن ديفيد كاميرون آخر رؤساء الوزراء ما قبل «البريكسيت»، كما يختلف عن تيريزا ماي التي سيخلفها والتي أخذت ملف الخروج من الاتحاد الأوروبي وفقا لمفهوم «الخروج الناعم» الذي يخلص بريطانيا من مسؤولياتها، ولكنه يبقي على علاقة حميمية مع القارة الأوروبية. وبالتأكيد فإنه يختلف عن جيرمي هانت المرشح المنافس الذي لم يكن يختلف كثيرا عن تيريزا ماي في المنهج والأسلوب، والذي حسمت الأغلبية أمره بالهزيمة التي كانت وفق المعايير البريطانية «ساحقة». مع انتخاب بوريس جونسون عادت بريطانيا إلى ما كانت عليه في القرن التاسع عشر دولة غير أوروبية تتدخل في القارة الأوروبية فقط لكي تحافظ على توازن القوى خاصة بين فرنسا وألمانيا، وإذا كانت قواهما قد تلاقت الآن، فإن التوازن يكون بينهما وبين من تبقى من أوروبا مثل إيطاليا وإسبانيا والدول في شرق أوروبا، التي أصرت بريطانيا من قبل على إدخالها إلى الاتحاد الأوروبي رغم المعارضة من الدول الأوروبية الكبرى الأخرى.
العودة إلى التاريخ تستعيد النقاش الذي دار في أوروبا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة حينما كانت بريطانيا قد دخلت إلى ما كان يسمى «المجتمع الأوروبي» في عام 1973 وبدت كما لو كانت قد تخلصت من عُقدها السابقة تجاه أوروبا، وأصبحت مع ألمانيا وفرنسا تمثل تجمع الكبار الذين قادوا القارة من التجمع إلى الاتحاد.
في النقاش الذي دار كانت هناك مدرستان: تعميق الاتحاد، وتوسيعه. التعميق كان يعني السير قدما في اتجاه الولايات المتحدة الأوروبية في واحدة من أهم عمليات الهندسة السياسية في العلاقات الدولية بخطوات مثل إقامة بنك مركزي موحد؛ وطرح عملة مشتركة «اليورو»؛ وإقامة حاجز سياسي بين أوروبا والدول الأخرى ممثلا في «الشنغن» الذي يجعل دول الاتحاد وحدة جمركية أمنيا واقتصاديا. أما التوسيع فكان قد ضم كل الدول التي خرجت من عباءة حلف وارسو، وتحررت من الشيوعية، والهيمنة الروسية السوفياتية، إلى الاتحاد الأوروبي وفق خطوات. كانت بريطانيا معارضة للتعميق، ومحبذة للتوسيع، لأن نظرتها للاتحاد الأوروبي كانت ذات طبيعة استراتيجية مهمتها مناوأة الإمبراطورية الروسية السوفياتية، ومن ثم كان الضم هو بطاقة التأمين لمستقبل من المنافسة مع الدولة الروسية الجديدة، وربما أيضا منع ألمانيا من قيادة أوروبا تحت العباءة الاقتصادية. ومن دون الدخول إلى التفاصيل فإن الأمر انتهى إلى «التعميق» و«التوسيع» معا وبينهما كان كثير من التناقضات؛ حيث كان التوسيع يكلف الاتحاد تكلفة كبيرة، كما أنه يخلق حساسيات وتناقضات مع روسيا لا داعي لها. أما الموقف البريطاني فكان البقاء خارج البنك المركزي والعملة الأوروبية والشنغن؛ والعمل على علاقات خاصة مع «أوروبا الجديدة» أي دول شرق أوروبا المتحرقة شوقا إلى علاقات وثيقة مع «التحالف الأطلنطي».
انتخاب بوريس جونسون يأخذ بريطانيا ليس فقط إلى الخروج التام من الاتحاد الأوروبي؛ وليس فقط إلى تكوين تحالف أطلنطي جديد مع الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترمب هذه المرة؛ وإنما لإعادة تشكيل شبكة العلاقات الأميركية الأوروبية من جديد، فبدلا من كونها قائمة على «حلف الأطلنطي» و«الاتحاد الأوروبي» فإنها ستقوم على تحالف بريطاني أميركي يقوده شبكة من محافظي اليمين المتطرف، الذي بدأ يوطد دعائمه في بولندا والمجر وإيطاليا ومؤخرا في اليونان؛ بينما تتسع قاعدته في برلمانات فرنسا وألمانيا وإسبانيا وغيرها من الدول الأوروبية. هذا على الأقل ما يصبو إليه «تحالف ترمب - جونسون» ولكن الطريق ليس ممهدا كما يبدو للحليفين، فداخل بريطانيا نفسها القصة لم تنته بعد، فهناك انتخابات جديدة ليست بعيدة سوف تضع بريطانيا أمام الاختيار مرة أخرى، وهناك وحدة المملكة المتحدة في الميزان؛ حيث اسكوتلندا وشمال آيرلندا مع البقاء في الاتحاد الأوروبي، وهناك ترمب الذي لن يبقى إلى الأبد حتى ولو فاز في الانتخابات الرئاسية المقبلة.