حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

عن سلطة تخاف من شعبها!

على مدار أربعة أيام تحول وسط بيروت إلى ثكنة عسكرية. المناسبة مناقشة وإقرار الميزانية العامة للدولة، عن عام 2019 بعد مرور سبعة أشهر على بدء العام المالي، وبعدما سجلت أرقام الأشهر المنصرمة عجزاً تجاوز 5 مليارات دولار. كل الشوارع المؤدية إلى المجلس النيابي والسراي الحكومي أُقفلت بالأسلاك الشائكة وعوائق الإسمنت والحواجز الحديدية. سيارات الإطفاء تمركزت على المحاور الرئيسية، وانتشر في المنطقة قرابة الألف جندي ودركي مع وحدات مكافحة الشغب، وتحركت آليات الوحدات المحمولة حول المنطقة. متاجر أقفلت قسراً ومقاهٍ من دون روّاد، وألوف من المواطنين عانوا الأمرّين من الزحمة الخانقة نتيجة تحويل السير إلى شوارع جانبية. والهاجس الوحيد لأهل الحكم كان تمرير موازنة الضرائب ومفاقمة العجز في غفلة عن الناس، من خلال الحد من حجم الاعتراض الشعبي والرفض العارم للسياسات المالية التي تقوم على مد اليد إلى لقمة خبز الناس، عبر إجراءات بوليسية أشبه بحال الطوارئ!
استفاد النواب من جلسات البرلمان المنقولة مباشرة على الهواء، اجتذبتهم الصورة طلباً لشعبية وتأكيداً على الغلو في نهج مخادع زائف غير مسؤول، فتناوبوا على تظهير الجانب الفضائحي للسلطة، وكل أطراف التسوية السياسية لعام 2016 التي سلمت قرار البلد لـ«حزب الله» مقابل المحاصصة الطائفية التي باتت القانون، في بلد يتمّ فيه عمداً تغييب المحاسبة والمساءلة والحد الأدنى من تحمل المسؤولية الوطنية.
أكثر العبارات التي ترددت على ألسنة النواب وهم من كل الكتل كانت: الفساد، السرقة، الهدر، الصفقات والتلاعب بالأرقام. أما وزير المال فأبدع عندما كشف للملأ عن وجود 136 معبراً للتهريب، مضيفاً أن الأجهزة الأمنية الرسمية (لا ننسى، في لبنان جيش بديل وأجهزة بديلة وأمن بديل)، وفّرت قائمة بأسماء الجهات المستفيدة من التهريب، وأنه بات لدى السلطة معطيات عن نوعية ما يتم تهريبه... لكن الوزير سكت عن الكلام المباح، فلا هو تحدث عن السبب الذي يمنع الأجهزة الأمنية عن إقفال هذه المعابر، ولا النواب الذين بُحت أصواتهم، بزعم الدفاع عن حقوق المواطنين، سألوا أو استنكروا. الجميع سلّموا باستمرار هذا النهب لأنه جزء من المحميات التي تعمل برعاية رسمية، وتؤمن للدويلة كما أطراف أخرى، المداخيل المتأتية من الاقتصاد الأسود على حساب المال العام وحقوق الناس.
أربعة أيام دبّج خلالها نواب الأمة خطباً عصماء، وتحولوا إلى نجوم الشاشة الصغيرة اقتحموا بيوت الناس، وأخذوا أدوار المواطنين المنهكين خلف لقمة الخبز، وطرحوا الأسئلة عن الرداءة السياسية والسلب «المقونن» وسياسة الرياء والتعصب والارتهان، وتباروا كأي مواطن متألم من الانهيار الاقتصادي الاجتماعي الذي طاول أكثرية اللبنانيين، في الاكتفاء بكشف جوانب من الفساد كهدر وسرقة وتهريب، لكنهم وهم من يُشرع ذهبوا في نهاية هذه الحفلة التنكرية للبصم على المكتوب دون تعديل حرفٍ واحد!
وحده رئيس الحكومة سعد الحريري الذي قال في كلمته إلى اللبنانيين: «هذه الموازنة قد لا يريدها رئيس الجمهورية ولا رئيس مجلس النواب ولا رئيس الحكومة، ولكن هذا ما يمكننا القيام به»!! رغم اللامنطق في كلمته، وهو رئيس السلطة التنفيذية، كان منسجماً مع ما جاءت به الحكومة فرد على النواب بقوله: «على شو المزايدة؟ ما كلكم مشاركين في وضع الموازنة»!! والمعنى يُقرأ من العنوان، وهو أن نهج الصفقات وتغطية الاقتصاد الأسود والتمادي بالإعفاءات الضريبية على الميسورين والاستيلاء على جزءٍ كبيرٍ من المال العام، كل نتائجها لأهل الحكم مع تمييز للدويلة التي تراجعت مداخيلها الخارجية من «المال النظيف»... واليوم السلطة الخائفة من شعبها والتي سورت البرلمان بالحديد والنار عادت إلى دعوة المواطنين لوضع كتف للحد من الخسائر التي تحولت أرباحاً في حسابات النافذين، وبالتالي ليس الاستسهال بفرض الضرائب واقتطاع نسبة جديدة من مخصصات التقاعد والطبابة والرعاية الصحية لكل منتسبي القطاع العام، ولا سيما العسكريين المتقاعدين الذين نفذوا أكبر الاعتصامات الاحتجاجية... إلاّ سياسة متفقاً عليها لأنها بديل تحالف أهل تسوية المحاصصة عن مكافحة الهدر والفساد!
في النظم الديمقراطية كان القليل مما قيل كافياً لإسقاط حكم بكامله وفرض انتخابات مسبقة، وليس مجرد محاسبة حكومة دخلت شيخوخة مبكرة، بدليل أنها جاءت إلى البرلمان بموازنة أصرح ما قيل عنها إنها موازنة مد اليد إلى جيوب الناس لتمويل ارتكابات نظام المحاصصة الطائفية، فيما هي كحكومة أسيرة المناكفة بين أطرافها، عجزت عن مجرد الاجتماع بعدما بات كل طرف من مكوناتها يملك «فيتو» على جدول أعمالها وعلى الدور الذي أناطه الدستور حصراً برئيسها.
بينما لبنان والمنطقة على كف رعونة النظام الإيراني وأذرعه العسكرية، وفي المقدمة منها «حزب الله»، الذي هدد بجعل لبنان ساحة في حرب مدمرة خدمة لأجندة الأطماع الإيرانية، فإن مصير البلد ودوره ومصالح أبنائه أمور لم تأخذ مكانها حتى في الأوراق الواردة رغم التسليم الواسع بأن العقوبات التي فرضت على نائبي «حزب الله» وأبرز مسؤوليه الأمنيين، رعد وشري وصفا، وجاءت على قاعدة تمثيلهم مصالح النظام الإيراني، كانت تستحق وقفة مسؤولة ومتأنية... فإن المعنيين قدموا صورة هزلية عن كيفية تفريغ النظام البرلماني الديمقراطي من المساءلة وهي جوهره!
أكثرية نيابية ساحقة وقفت في خطاباتها ضد الميزانية الجائرة، لكن 83 نائباً من أصل 100، حضور الجلسة الأخيرة، لحسوا الاستعراض الذي قدموه وأيدوا الميزانية، وهم في اللحظة الأخيرة أبوا كجهة تفتقر لأي رؤيا أو تخطيط، إلاّ أن يمنحوا مشغلي 136 معبراً غير شرعي مكافأة تمثلت بفرض ضريبة 3 في المائة على كل السلع ستنعكس نحو 5 في المائة ارتفاعاً في الأسعار. إنها زيادة أرباح المهربين 3 في المائة على حساب دافعي الضرائب، مما سيفاقم تكلفة معيشة اللبنانيين بدل مكافحة الفساد! وهو الأمر الذي سيتسبب في اعتراض أكبر للناس، عنوانه استعادة البلد المخطوف ووقف نهبه!