مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

الصحة بالأبدان... والأمان بالأوطان

بلغ متوسط معدلات ضحايا جرائم القتل العمد في السعودية 0.67 جريمة لكل 100000 من السكان خلال عام 2018، مقارنةً بمعدل عالٍ وصل إلى 6.4 ضحية لكل 100000 من السكان في عام 2015، حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية «WHO».
كما أثبت تقرير بحثي حديث لمؤسسة الملك خالد الخيرية، لعام 2019، أن 97% من السعوديين يشعرون بالاطمئنان على سلامتهم الشخصية من الجريمة والعنف، ويشعر 88% بالأمان في أثناء المشي ليلاً وحدهم – انتهى.
أتذكر عندما كنت طفلاً غريراً في الطائف، عندما أسمع صافرة تتردد ليلاً بين الحين والآخر في الشارع يصيبني الرعب ولا يغمض لي جفن، خصوصاً حينما عرفت أن من يطلق تلك الصافرات هو رجل أمن يطلق عليه مسمّى «العسّه»، وهو العدو اللدود لكل إنسان تسوّل له نفسه السرقة. ومن يومها عاهدت نفسي ألا أكون سارقاً ولا مسروقاً من الناحية المادية، أما ما عدا ذلك من الناحية العاطفية فحدّثوا ولا حرج، فما أكثر ما عشت في ميادين الغرام جنوناً وسرقات لها أول وليس لها آخر، ولكن على مبدأ «لا ضرر ولا ضرار»، وكنت طوال عمري إنساناً مسالماً، مقتنعاً تماماً بأن كل شيء من الممكن أن يؤخذ «بالسيف»، ما عدا المحبة فهي لا تؤخذ إلاّ «بالكيف».
أعود لتلك الإحصائية والنتيجة الأمنية، التي فرحت بها، وقلبت الموازين في حياتي اليومية لأنني بطبيعتي خوّاف – أو بمعنى أكثر دقة كنت دائماً شديد الحذر - تنتابني الشكوك في أي إنسان لا أعرفه وأقابله في الطريق، متذكراً عقدة «العسّه» التي ترسخت في كياني منذ عهد الطفولة.
والآن تحولت ولله الحمد إلى إنسان آخر، فبعدما كنت أغلق باب بيتي بعد صلاة العشاء فوراً، ولا أفتحه وأخرج إلى الشارع إلاّ بعد أن أتأكد وأسمع أصوات العصافير معلنة قدوم الصباح، الآن لا يحلو لي الانطلاق والسير في أرض الله الواسعة إلاّ في «أنصاص» الليالي، وأضرب المشوار من بيتي على الأقدام ولا يردّني غير «الكورنيش» موزعاً تحياتي وابتساماتي ومصافحاتي على كل من أقابله، وتحول البشر في عيني دفعة واحدة من شياطين إلى ملائكة.
ولا أعود إلى بيتي إلاّ بعد أن أسمع مؤذن الفجر ينادي «الله أكبر»، فأدلف إلى رحاب المسجد القريب من بيتي وأصلي مع الجماعة بعد ما كنت أصلي منفرداً في غرفتي التي أُحكم إغلاقها أيضاً بالترباس.
وصدق من قال: نعمتان لا يعرفهما الإنسان إلاّ بعد أن يفقدهما: الصحة بالأبدان، والأمان بالأوطان. فافهموها يا غجر، تَرِبَت أيمانكم.