حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

في عين العاصفة

دخل لبنان منعطفاً جديداً مع العقوبات الأميركية التي طالت لأول مرة نائبين منتخبين من «حزب الله»؛ محمد رعد وأمين شري، والمسؤول الأمني الأبرز وفيق صفا. هذا القرار الذي يشلُّ الجهة المستهدفة، هو على المستوى الشخصي «قرار إعدام لحياتهم المدنية العادية، وهو قرارٌ نافذٌ لا يقبل أي طريق من طرق المراجعة والاعتراض»، على حدِّ وصف الخبير المالي والاقتصادي الدكتور توفيق شمبور. هذه المرة لم تعلن العقوبات تحت العناوين المعروفة من نوع الاتهام بالتهريب وبتبييض أموال أو على خلفية عمل إرهابي أو منحى عسكري، بل إن الاستهداف الذي طال الحزب تعداه إلى الدولة اللبنانية، وظهر أن التصويب الفعلي هو على العلاقة بين الحزب والسلطات اللبنانية. من هنا يُفهم قول رئيس الوزراء سعد الحريري إنها وضعت لبنان «أمام منحى جديد»، وبالتالي هناك تخوف من الآتي، لأن هذا الاستهداف صنّف الدولة اللبنانية جزءاً عضوياً من منظومة النفوذ الإيراني! ما يهدد بمخاطر حقيقية من أن تكون الدولة اللبنانية مستقبلاً أمام العقوبات المباشرة، إذا نجح مخطط تحويلها إلى أكياس رمل يحتمي بها «حزب الله»!
نعم إنها عقوبات نوعية لأنها أنهت مرحلة من السجع عن «التفهم» الأميركي للوضع اللبناني، وأن استقرار البلد أولوية عند صانعي السياسة الأميركية، عندما أعلنت أن الغطاء السياسي الرسمي انتهى ولا قيمة له وهذه العقوبات قد تكون البداية لقرارات قد تطال البيئة السياسية الداعمة للحزب من وزراء ونواب وجهات مموَّلة دأبت على مشاركة وتسهيل أعمال «حزب الله»، ما يعني تغييراً جذرياً في قواعد التعاطي مع لبنان ولو أدى ذلك إلى تسريع الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يقرع الأبواب، نتيجة لسياسة النهب المعروفة بالمحاصصة الطائفية. بمعنى آخر هذه العقوبات المتزامنة مع التشدد في العقوبات الأميركية على النظام الإيراني، وجهت رسالة مفادها أن الجهة المستهدفة تمثل المصالح الإيرانية داخل لبنان، وكل المحاولات للإيحاء أن هذه القضية وطنية وأن الاستهداف الذي طال نواب في البرلمان يطالُ كذلك الهوية والسيادة اللبنانية أمر خارج السياق.
بالتوازي مع مطالبة الحكومة اللبنانية بموقف يرفض ما اعتبر انتهاكاً أميركياً للسيادة اللبنانية، طالعنا الأمين العام لـ«حزب الله» بمواقف تؤكد أن ميليشيا «حزب الله» تلتزم تنفيذ الأجندة الإيرانية دون أي إبطاء، وأنه لا أولوية للمصالح اللبنانية لدى قيادة الحزب، فيعلن السيد نصر الله أنه يجب أن يعرف الجميع «أن الحرب إن حصلت فستكون حرباً مدمرة للمنطقة كلها. كل دولة ستكون شريكة في الحرب على إيران، أو تقدم أرضها للاعتداء على إيران، ستدفع الثمن (...)».
هكذا قفز الأمين العام لـ«حزب الله» مجدداً في مواقفه فوق الشرعية والحكم وسائر المسؤولين وتجاهل الدستور والسيادة، والتقاء أكثرية اللبنانيين حول مطلب تحييد لبنان، المكرس في إعلان بعبدا. لا؛ بل جعل البلد مجرد مخزن للصواريخ والأسلحة تشهر عندما تتطلب المصلحة الإيرانية. وعلى جري العادة كشف نصر الله عن بنك أهداف يشمل كل الجغرافيا الإسرائيلية مهدداً إسرائيل بأنه «سيعيدها إلى العصر الحجري»!!، لكن ماذا سيكون مصير لبنان وأهله عند التضحية بهم كرمى السيطرة الإيرانية؟ فهذا الأمر بدا أنه تفصيل ممل!! غريب هذا السلوك الذي يستسهل أخذ لبنان إلى التهلكة، خدمة لأجندة السيطرة الإيرانية، كأنه لا يكفي اللبنانيين «انتصارات إلهية» على غرار حرب عام 2006 التي تسبب بها «حزب الله»، بإقرار مثبت بالصوت والصورة بأنه «لو كان يعلم»، لما رتب على لبنان الذي جرفته مغامرة إيرانية نفذها الحزب، خسارة حياة 1400 لبناني وسقوط ألوف الجرحى والمعوقين، إلى دمارٍ غير مسبوق قُدِّر بنحو 15 مليار دولار. وفوق ذلك كرر نصر الله إطلاق التهديدات ضد دول الخليج نيابة عن إيران ضارباً عرض الحائط بمصلحة اللبنانيين، ما وضع لبنان الرسمي أمام معادلة صعبة، يستحيل معها التوفيق بين العجز عن تجاهل ضغوط «حزب الله» من جهة، ومن الجهة الثانية ملاقاة ضغط العقوبات الأميركية التي تستهدف عزل الحزب سياسياً وإنهاء التمييز بين جناحين في الحزب؛ سياسي وعسكري.
من الخطأ الاستهانة بالموقف الأميركي الذي ركز على علاقة الحزب بمؤسسات الدولة اللبنانية، لأنه كما ورد أعلاه جاء في سياق العقوبات على النظام الإيراني وأذرعه العسكرية، وأنه جزء من استراتيجية الولايات المتحدة، التي لم تعد تقتصر على تجفيف مداخيل الحزب من الخارج، فانتقلت إلى الضغط على الجهات الرسمية ووضعها أمام مسؤوليتها مطالبة برفع اليد عن المؤسسات العامة والرسمية. ولافت أنه من خلال الإشارة إلى الأدوار المتعددة للمسؤول الأمني وفيق صفا الذي يمسك جهازه الأمني بالمعابر البرية والثغور البحرية والجوية، نبه الموقف الأميركي إلى أنه لم يعد جائزاً التغاضي عن حجم الاستفادة من الاقتصاد الأسود والاقتصاد الموازي، الذي أنشأه الحزب لتمويل أنشطته، بعد تراجع إرساليات «المال النظيف» من إيران وتحويلات الأنشطة المشبوهة، خصوصاً من الأميركتين وأفريقيا.
لقد وضعت السياسات الإيرانية لبنان في عين العاصفة، ومعروف أن أي انزلاق عسكري سيضع لبنان في قلب النار، والأمر لم يعد مستبعداً مع تمادي الرعونة الإيرانية في استدراج صدام حربي. ولئن كانت أوساط واسعة من المستفيدين والمتسلقين الذين يدورون في فلك الممانعة، باتت تخشى من سيف العقوبات على مصير ثرواتها ومكاسبها وأدوارها اللاحقة من جرّاء التغطية على ممارسات «حزب الله»، وتنشط انطلاقاً من وضعها الخاص متجاهلة موجبات حماية الشأن العام، فإن السلطات الرسمية أمام تحدي حماية مصالح عموم اللبنانيين واستقرار البلد وأمن أبنائه وضيوفه، وهذا يحتم الفصل بين مصالح لبنان وأهله، والأجندة الإيرانية التي ينفذها «حزب الله» التي أضعفت الدولة اللبنانية وخرّبت المنطقة.