د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

«فيسبوك» و«ليبرا» ومحنة المؤسسات النقدية الوطنية

في التغريدة الفريدة للرئيس الأميركي ترمب التي عبر فيها عن رفضه للعملة الرقمية المشفرة التي أعلنت شركة «فيسبوك» عن إطلاقها باسم «ليبرا»، كوسيلة لانتقال الأموال بين مستخدمي تلك الشبكة، نصح ترمب الشركة الأميركية إن أرادت أن تتحول إلى بنك بأن تلتزم الإجراءات القانونية التي يحددها النظام المصرفي. هذه النصيحة قد تمر على كثيرين باعتبارها تغريدة رفض، أما مضمونها فيحتمل التوجيه غير المباشر لإدارات الدولة الأميركية ومؤسساتها التشريعية، كي تتخذ موقفاً قانونياً من عملة «فيسبوك» وهي في مهدها. وأياً كان الأمر، فنحن أمام أحد مظاهر صراع كبير سوف يشتد في السنوات المقبلة، بين صلاحيات شركات الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وبين أجهزة الدولة الوطنية، سواء كانت متقدمة تكنولوجياً أو ما زالت في مراحلها الأولى.
كثيراً ما أشير إلى تصاعد هيمنة شبكات التواصل الاجتماعي وشركات الإنترنت العملاقة، وجلها أميركية، على دور الإعلام التقليدي، ونشوء مجال عام ذي طبيعة عالمية لا يعرف الحدود بين الدول، وتغييرها لمفهوم الإعلان، والخصوصية، وإبداع آليات جديدة للضغط الاجتماعي، والتأثير على أمزجة الأفراد وتوجهاتهم السياسية بطريقة غير مرئية. وبشكل أو بآخر لم يكن أمام الدولة الوطنية سوى التكيف مع تلك الظواهر الجديدة، والتي تحد عملياً من صلاحيات الحكومات، وتجبرها على التماهي على هذا الجديد المسنود بتأييد شعبي عالمي يصعب تجاهله.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا يجد الرئيس ترمب ومن قبله رئيس «الفيدرالي الاحتياطي» الأميركي وبعض المشرعين في الكونغرس في خطوة «فيسبوك» لإصدار عملة رقمية مشفرة قدراً من الخطورة، في الوقت الذي يعرف فيه العالم كثيراً من العملات المشفرة، كـ«بيتكوين» و«الإيثريوم» و«لاتكوين» وغيرها، والتي يتم التعامل بها حتى في داخل المجتمع الأميركي، وتقرها بعض الولايات قانوناً كشيكاغو؟
ثمة سببان يمكن الإشارة إليهما؛ أولهما أن هناك خلافاً جوهرياً بين عملة «فيسبوك» والعملات المشفرة الأخرى، فالثانية مرتبطة بجهود أفراد ومجموعات من المبرمجين المبدعين لما يعرف بسلسلة الكتل، التي تتوفر فيها حماية ذاتية وشفافية شائعة بين المتداولين للعملة المعنية، فضلاً عن كونها معرضة للتقلبات السريعة؛ من حيث قيمتها التي تُحدد قياساً بعملة حقيقية كالدولار أو أي عملة دولية أخرى، في حين أن عملة «فيسبوك» هي وليدة تحالف مع ما يعرف برابطة «ليبرا» السويسرية التي تضم عدداً من شركات الخدمات المالية، كـ«فيزا»، و«ماستر كارد»، وشركات اتصالات كبرى كـ«فودافون»، وشركات خدمات السفر كـ«بوكينغ» و«أوبر»، و«سبوتيفاي» للموسيقى. وكلها رموز للعالم الرقمي. وهو تحالف سوف يستفيد من مستخدمي «فيسبوك» عبر العالم، والذين يصل عددهم إلى 2.4 مليار نسمة، والأهم هو تعهد «فيسبوك» وشركائها بحماية العملة الجديدة من التقلبات التي تتعرض لها عملات «البيتكوين» و«الإيثريوم»، وغيرهما.
هذه الخصائص تجعل هذا التحالف الوليد من الشركات المتعددة المجالات بديلاً لدور كل من البنوك المركزية المنوط بها إدارة السياسة النقدية والمصرفية، كل في بلده، وأيضاً لوزارات المالية المنوط بها إدارة السياسات المالية، بما فيها الضرائب، كل في بلده. وفي حال نجح هذا التحالف فإن العالم سيكون أمام مؤسسة مالية - نقدية لها جمهورها العابر للحدود، وبما يؤثر أيضاً على أدوار كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي معاً. بعبارة أخرى: ثمة مؤسسة ذات طابع عالمي كوني تفرض نفسها على حساب أدوار أصيلة للدولة الوطنية من جانب، ومؤسسات دولية تحدد مسار الاقتصاد الدولي من جانب آخر. ولكنها مؤسسة لا تمت إلى جنسية معينة بصلة، ولا تشرف عليها أو تحدد طبيعة عملها أو تراقبها جهة حكومية مركزية محددة، اللهم إلا إذا قرر المشرعون الأميركيون وضع قانون مفصل يحكم عمل هذا التحالف، باعتبار أن «فيسبوك» هي شركة أميركية أولاً وأخيراً.
العامل الثاني أن شيوع العملات المشفرة بين الأفراد العاديين سوف يؤدي إلى تغيير طبيعة العلاقات الاقتصادية والتبادلات التجارية بين الأفراد والكيانات المختلفة، ولما كانت هذه الأنشطة المستندة إلى عملات مشفرة بعيدة عن رقابة ومعرفة أجهزة الدولة الوطنية، فمن الطبيعي أن تخسر تلك الأجهزة موارد مالية هائلة، يتم تحصيلها في صورة رسوم وجمارك وضرائب، في الوقت نفسه تتحصل شركة التواصل الاجتماعي المعنية على موارد هائلة، بما يؤثر على التوازن المعتاد بين الدولة وبين الشركة العالمية لصالح الطرف الثاني.
والعاملان معاً يكشفان عن صراع ينبئ بتحول شركات الاتصالات والتحويلات المالية إلى نوع من الحكومة العالمية، وإنْ في مجالات محدودة تتسع تدريجياً، وفي الوقت ذاته تتقلص تدريجياً قدرات مؤسسات الدولة وتشريعاتها على ملاحقة الجديد الذي تقيمه وتبدعه تلك الشركات. ولذا يظل منطقياً التساؤل حول ما هو التحرك المناسب؟ وهل هناك صيغة يمكن إبداعها تحافظ على هيبة مؤسسات الدولة، باعتبارها مسؤولة عن حفظ مصالح المواطنين، وإغلاق الأبواب أمام التعاملات الخارجة عن القانون، كتجارة المخدرات والأسلحة والتعاملات بين كيانات إرهابية، مع تنامي دور الشركات الخاصة العابرة للحدود؟
في عُرف صندوق النقد الدولي، وكما عبرت عن ذلك كريستين لاغارد في فبراير (شباط) 2018، أن على البنوك المركزية الوطنية أن تصدر عملة رقمية تتوافق مع أهداف السياسة العامة، كالشمول المالي والأمن وحماية المستهلك، وتقديم ما لا يستطيع القطاع الخاص تقديمه، وهو الخصوصية في أداء المدفوعات، وأن ترتبط بالتأكد من هوية المستخدم، وتسجيل المعاملات لدى البنك المركزي، ولكن دون الإفصاح عن هوية العملاء، وربط تداول العملة الرقمية بضوابط مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتستند إلى صيغة للتعاون أو الشراكة مع القطاع الخاص والمؤسسات المالية، والتي ستكون بمثابة الواجهة مع العملاء، والمنوط بها إجراء المعاملات. أما البنوك فهي التي تخزن الثروات وتحدد الفائدة وتقدم القروض.
رؤية لاغارد على هذا النحو تحاول أن تبقي على دور البنوك المركزية الوطنية، وإفساح مجال للتعاون مع الشركات الخاصة. ونجد في الواقع بعض المحاولات في هذا الصدد، فالكويت بصدد إصدار عملة رقمية رسمية، وكل من الإمارات والمملكة العربية السعودية بصدد إصدار عملة رقمية باسم «عابر»، واليابان اعترفت بالتعامل مع عملة «البيتكوين» بضوابط قانونية، كتلك التي تحكم التعاملات النقدية التقليدية، وفنزويلا أصدرت عملتها الرقمية، ودول كثيرة كبريطانيا، وروسيا، وكندا، وهولندا، وكوريا الجنوبية، وأوكرانيا، تدرس التجارب المختلفة لتصدر عملتها الرقمية الخاصة، وهي مساعٍ تعترف بضرورة التكيف مع الجديد الرقمي، أو الخروج من الحلبة كلياً.