عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الأحداث يا ولدي العزيز... الأحداث

في الأيام الأخيرة لتيريزا ماي، بصفتها رئيسة وزراء للمملكة المتحدة، بدت تظهر صورة مغايرة عما تعودناها من تحفظ وحذر. ربما بدأت تكشف عن شخصيتها الحقيقية بنكات وقفشات، وبدت خفيفة الدم بعد أن ألفنا ثقل الظل منها.
شبه اتفاق في منصة الصحافيين البرلمانية أنها أسقطت قناع الحذر والشك في الجميع، فهي راحلة تدرك أنها لن تخسر شيئاً فلن تخوض انتخابات جديدة بعكس من سيخلفها في محاولة قيادة السفينة في بحر عاصف والبحارة لا يتفقون على اتجاه البوصلة.
يوم الأربعاء تحسن أداؤها وكانت شعلة من الحيوية في المساءلة الأسبوعية في مجلس العموم. وهي منازلة لا مساءلة بالمعنى المعروف في البرلمانات التي تستدعي وزيراً للاستجواب، بل جزء من التقاليد البرلمانية. مبارزة أسلحتها اللسان وسرعة البديهة والمعرفة بالتفاصيل، تدور بين الحكومة ممثلة في رئيستها وبين المعارضة. ليس زعيم المعارضة الذي يلقي ست قذائف، بل 319 من نواب الأحزاب المعاكسة، والمستقلين والمتمردين الفارين من حزبها إلى المعارضة.
منازلة الأربعاء كانت 47 دقيقة من استعراض لاعبي المهارات السياسية لتسجيل أهداف بلاغية أمام حارسة المرمى الوحيدة في مباراة مشاهدوها المستهدفون جالسون في منصة الصحافيين من كتّاب الاسكتش البرلماني، ومعلقي الإذاعة والتلفزيون.
من منصة الصحافيين شاهدت الأداء الأخير لعدد من رؤساء الوزراء، بعضهم مكنته الظروف من تحديد الموعد بنفسه كتوني بلير الذي تولى الوزارة في 1997 وكان آخر منازلاته البرلمانية في 27 يونيو (حزيران) 2007. وآخرون حرمتهم أحداث خارج إرادتهم من إعداد نص الدور مقدماً، كالمسكين ديفيد كاميرون الذي راح ضحية سذاجته السياسية (في الوزارة من 2010 إلى 2016).
أخطأ في تقدير المزاج العام للناخب الذي صوت بأغلبية مليون وأربعمائة ألف صوت (هي الأكبر في أي انتخابات لستة عقود) برفض مشروعه واختيار الانفصال عن بروكسل، فجاء وداعه الأخير لعالم السياسة مرتجلاً وعاطفياً.
سابقه السير جون ميجر، وزارته (1990 - 1997) خسر الانتخابات فلم يدرك مقدماً أن مساءلة 27 مارس (آذار) 1997 كانت الأخيرة، لكنها جاءت جيدة أمام زعيم معارضة، محامٍ متمرس بليغ سريع البديهة، الشاب توني بلير الذي تولى زعامة حزب العمال قبلها بثلاثة أعوام وعمل على تجديده بشكل مفاجئ للمحافظين.
راقبت ميجر، في 9 يونيو 1997. متمكناً من إلقاء كلمته الأخيرة من صفوف المعارضة لأول مرة في 18 عاماً عندما وظف الهزيمة الساحقة ببراعة في أداء فكاهي، ساخراً من الأحداث السياسية التي تحطمت سفينة المحافظين على صخورها.
«الأحداث يا ولدي العزيز الأحداث» قول رئيس الوزراء المحافظ الراحل السير هارولد ماكميلان (1894 - 1986) عندما سئل عن أخطر تحديات هددت رئاسته للحكومة (1957 - 1963).
الأحداث والظروف التي لا يستطيع السياسي، خاصة في الأنظمة الديمقراطية التحكم فيها، فصوت الناخب قد يسدل ستار الفصل الأخير قبل النهاية التي كتبها المؤلف.
وحتى السيدة الحديدية مارغريت ثاتشر لم تستطع التحكم في الأحداث التي أنهت حكمها (1979 - 1990) بطعنة في الظهر من وزرائها الذين أرادوا إزاحتها لأنها لم تكن ستوقع معاهدة ماستريخت لتحويل السوق الأوروبية المشتركة إلى الاتحاد الأوروبي بعد أن أدركت أن الهدف النهائي هو دولة ولايات فيدرالية عظمى ينكمش دور بريطانيا داخلها.
ولم يكن أداؤها الأخير على خشبة أكثر المسارح شهرة في عالم السياسة، طاولة المواجهة في قاعة مجلس العموم في وستمنستر، بل عتبة رقم 10 داوننغ ستريت، ويد التاريخ على مقبض بابه وهي تتمتم بعبارة حزينة «يا له من عالم غريب!».
الوحيد الذي شاهدته متحكماً في ظروف خروجه خلال عشرين عاماً مراقباً في أم البرلمانات، كان السياسي البليغ بلير، فلم يكن يواجه انتخابات، وتضمنت خطبة الوداع التي أدلى بها ملخصاً لتركته، بعضها كان إيجابياً كالحكم الذاتي لأمم المملكة المتحدة الأصغر، اسكوتلندا وإمارة ويلز، وشمال آيرلندا؛ واتفاق الجمعة العظيمة (أبريل/ نيسان 1998) بإنهاء العنف في آيرلندا الشمالية؛ وفصل بنك إنجلترا المركزي عن الحكومة؛ وبعضها سلبي كالتخريب الدستوري وتهديد تقاليد عمرها قرون طويلة والحروب الخارجية. لكنها في النهاية تركة سياسية سيتحدث عنها التاريخ.
وعلى العكس مهما حاولت السيدة ماي من خطب بلاغية فإن تركتها السياسية أقل من الصفر. وغالباً سيحصر المؤرخون السياسيون دراستهم لفترة حكمها في دورها في تخريب شعبية المحافظين.
وحتى جون ميجر وسابقه إدوارد هيث (1916 - 2005) والمتهمان بخداع الناخب بشأن السوق الأوروبية والاتحاد الأوروبي فلهما أيضاً إنجازات تعتبر تركات سياسية وتغيرات اجتماعية واقتصادية. وهذا يجرنا للحديث عن التركات السياسة لزعماء كان وقعهم الجماهيري والشعبوي، فحصاً بعين المؤرخ، أكبر من التأثير الحقيقي الأفضل في حياة الناس.
والبعض أثروا سلبياً رغم الشعبية الكبيرة، وأغلبهم تولوا الحكم بأساليب لا يعرفها عالم ديمقراطية البرلمانات والانتخاب، لكنهم يشاركون الأخيرة بأن نهايتهم كانت «الأحداث يا ولدي العزيز، الأحداث» ففاجأتهم بما لم يتوقعوا.
زعماء كمعمر القذافي (1942 - 2011) وصدام حسين (1937 - 2006) كانت شهرتهم واسعة على المستوى العالمي وشعبيتهم في بلديهما كبيرة في بعض الفترات لكن تركاتهم السياسية والاقتصادية كانت كارثية. لم تسمح نهايتهم بخطبة وداع يذكرها مؤرخو البلاغة السياسة، فمن عاش بالسيف........؟
ربما كان صدام أسعد حظاً من القذافي، فقد أتاحت محاكمته فرصة التنفيس عما بصدره.
كذلك كانت الأحداث بظروفها المأساوية أكبر من محمد مرسي (1951 - 2019)؛ فهو مثل صدام حسين، أتاحت المحاكمة الأطول له فرص التعبير الذي خانه في خطبته الأخيرة منذ ستة أعوام والتي لا يذكرها كثيرون.
أما سابقه حسني مبارك الذي أدت خطبته العامة الأخيرة إلى الإسراع بنهايته، فسيمر وقت أطول على وضع إنجازه الأكبر، وهو عدم خوض بلاده حروباً أثناء رئاسة ثلاثة عقود (1981 - 2011)، في فصل كتاب التاريخ المناسب.
الزعيم الأشهر جمال عبد الناصر (1918 - 1970) لم تتجاوز تركته الشعارات والإنجازات الآيديولوجية كإيقاظ مشاعر عاطفية بالوحدة العربية، وكانت اقتصادياً سلبية على بلاده، بجانب عدد من الحروب التي كان يمكن تجنبها، ودوره المؤثر في تأخير التوصل لتسوية سلمية لشاغله الأكبر، قضية فلسطين.
ورغم أن الأحداث لم تسمح له بإعداد خطبته الأخيرة بسبب موته بسكتة قلبية فلا تزال خطبه الجماهيرية غير الملقاة في قاعة البرلمان هي الأشهر بين متحدثي العربية اليوم ربما بفعل الراديو والتلفزيون الذي تجاوز حدود بلاده.
ولا تزال خطبه أكثر شعبية ورواجاً من كلمات خليفته أنور السادات (1918 - 1981) رغم أن الأخير فاقه بلاغة وإجادة في الإلقاء وكان أكثر مهارة في السياسة إقليمياً ودولياً، غالباً لخبرته ونشاطه الطويل قبل انضمامه للضباط الأحرار.
ومع انقسام العرب حول تركة السادات المثيرة للجدل رغم اتفاق السلام، فتركته تظل، كتركات كل المذكورين أعلاه، أكثر ثراءً من تركة رئيسة حكومة أقدم ديمقراطية في العالم.