عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

قانون ناتاشا

بخليط من دموع الفرح بنجاح حملتهم السياسية ودموع أحزان لذكرى أليمة، استقبلت أسرة نديم وتانيا عدنان - لامبروزو، موافقة مجلس العموم البريطاني على مشروع القانون الذي قدمه وزير البيئة والأغذية والزراعة هذا الأسبوع؛ «قانون ناتاشا» الذي يجبر كل محلات الأغذية وشركات إنتاج المواد على أن تكتب جميع محتويات أي أغذية مبيعة، سواء من ساندويتشات أو حلوى أو مشروبات أو معلبات أو مأكولات طازجة.
القانون الذي صدر هذا الأسبوع سيدخل حيز التطبيق في صيف 2021، وتعتبر مخالفته جريمة جنائية.
من هي ناتشا؟ وماذا يعني القانون؟ وكيف صدر في نظام ديمقراطية فصل السلطات؟
كثير من القوانين التي تدرج في أرشيف البرلمانات والمجالس التشريعية التي أصدرتها، بأرقام وتواريخ واسم يلخص الغرض من القانون، غالباً ما تعرف بين الناس والصحافة، والأهم الشريحة الاجتماعية أو المهنية الاقتصادية المتأثرة بالقانون، باسم الشخص الذي كان ضحية خطأ يعالجه القانون الجديد.
كانت الحكومة قدمت مشروعه للبرلمان، وللاستشارة بين الجهات المعنية في مطلع هذا العام.
في صيف 2017 ماتت ابنة الخامسة عشرة ناتاشا عدنان - لامبروز من أزمة حساسية من «السمسم» أثناء رحلة بالطائرة مع أبيها.
هناك عدة مستويات لحدة الحساسية، سواء من الأطعمة (وتصيب مليوني بريطاني) أو حتى منتجات صناعية (11 ألف حالة سنوياً).
بعض الحساسية خفيف، ويسمي «إينتلورينص»، أي تهيج بعض أجهزة الجسم، التي قد تحاول التخلص منها بالإصابة بالإسهال مثلاً، أو لفظها تقيؤاً أو احتوائها بفرز السوائل والمخاط، ما يسبب العطس وسيلان الأنف والدموع.
وقد تكون الحساسية شديدة التأثير، فيتدخل جهاز المناعة لفرز «الهيستامين»، وأحياناً بكميات تؤدي إلى ضيق التنفس وإضعاف القلب، وتجرى الإسعافات الأولية بأدوية تفتح الشعب الهوائية كبخاخة الربو (تصيب مليوناً ومائة ألف طفل، و4 ملايين و300 ألف بالغ في بريطانيا)، أو نقاط الأنف ضد حساسية الربيع (تصيب 13 مليوناً)، وسببها لقاح الزهور، أو تعالج بخليط من مضادات «الهيستامين» و«الأدرينالين» لمساعدة القلب أثناء الأزمة.
وفي حالة الحساسية الخطرة التي تهدد الحياة، تعطى الأدوية بحقنة يحملها أشخاص كالصبية الراحلة ناتاشا طوال الوقت معها.
ناتاشا اشترت من محل للوجبات السريعة في المطار ساندويتشاً قرأت محتويات تغليفه، التي لم تذكر السمسم.
أثناء رحلة الطائرة بعد قضمتين، أحست ناتاشا بأعراض أزمة حساسية، وأسرع أبوها بحقنها بحقنة واحدة كانت تحملها. الطيار أيضاً أخطأ بعدم الهبوط في أقرب مطار، وانتظر حتى نهاية الرحلة، ولم تفلح كمية الدواء في الحقنة في إسعاف المسكينة.
القوانين، حتى هذا الأسبوع، كانت تلزم المحلات التي تعد الأطعمة محلياً بكتابة المنتجات الطازجة، لكنها لم تلزمها بذكر تفاصيل محتويات المنتجات الثانوية المضافة كالصلصات المعلبة مسبقاً والبهارات.
القوانين الحالية أيضاً تكتب بخط بارز الأطعمة المسببة للحساسية، والقائمة أربعة عشر نوعاً في بريطانيا.
فمثلاً يعاني كاتب هذه السطور من نوعين من الحساسية الشديدة؛ أحدها «الغلوتن» (منتجات القمح)، ومدرج في قائمة الأربعة عشر، والآخر نادر، وهو البصل، ومشتقات عائلة نبات البصل، ولم يدرج بعد.
ورغم دقة استجواب غرسونات أي مطعم يصادف أن أُدعى إليه، فكثيراً ما يصيبني المرض، وأضطر لتحمل الحقن المؤلمة، لغياب ذكر محتويات مواد عن «المنيو»، أو استخدام سكين كان استخدم في قطع البصل لإعداد طعامي، فأصبحت لا أذهب لمطاعم جديدة إلا مضطراً.
ما خبرته من معاناة ذكرها أبوا ناتاشا اللذان أطلقا حملة سياسية، وجمعا التوقيعات لحث الحكومة على تقديم مشروع القانون للبرلمان، سواء في عشرات المقابلات الصحافية، أو أمام اللجنة البرلمانية المختصة بالتحقيق قبل إصدار القانون في مجلس العموم، بأن القوانين الحالية قاصرة عن توفير المعلومات الضرورية لحماية صحة الناس.
فـ«المنيو» في المطعم، أو قائمة عناصر «وصفة الإعداد» على غلاف الوجبة السريعة المعروضة أو المعلبة، يشيران مثلاً إلى لحم أو سمك، وأسماء الخضراوات و«صلصة طماطم» أو «مايونيز»، لكن لا يلزم القانون الشيف في المطعم أو مديره أو صاحب محل الوجبات السريعة بأن يفتش بنفسه أن محتويات علبة «صلصة الطماطم» المستوردة من إيطاليا أو «المايونيز» لا تحوي مكونات تسبب الحساسية، وهو ما حدث مع المسكينة ناتاشا، حيث خلا الخبز من «الغلوتن»، لكن كان في الدقيق آثار السمسم، ولم تذكر على بطاقة التغليف، ما دفع أسرتها لشن الحملة للمطالبة بالقانون الجديد.
نقل 4500 في العام الماضي للمستشفيات بأزمة حساسية إثر تناول الأطعمة الخطأ، بجانب 10 وفيات من حساسية الأطعمة، من بينهم تلميذ في الثالثة عشرة مزح زميله بإلقاء قطعة من الجبن على قفاه، وهو يعاني من حساسية خطرة للجبن، وتسممت البثور التي ظهرت فوق جلده، بعد أن أخطأت المعلمات في قراءة تاريخ الحقنة المضادة للحساسية منتهية المفعول.
ويضع الأطباء 8 في المائة من المصابين بهذه الحساسيات على نظام أدوية دائم لتجنب ما لا يحمد عقباه.
وأتناول منذ سنوات 6 كبسولات يومياً، لتعطيل رد فعل جهاز المناعة لبضع دقائق، قبل أن يهاجم نفسه عند تعرضي لأزمة حساسية، بجانب دواءين إضافيين لمعالجة الأعراض الجانبية للدواء الأصلي، وأتعاطى مضادات حيوية لحالات بسيطة كحشو ضرس بسبب إضعاف جهاز المناعة.
التأخر سنوات في إصدار القانون يعود لإجراءات إصدار القوانين في بلدان فصل السلطات.
فمهما كانت النوايا الطيبة أو منافع القانون، كحالة الفتاة الراحلة ناتاشا، لا يستطيع الوزير أو رئيسة الحكومة نفسها إصدار القانون «على مزاجهم»، لأن الحكومة جهاز تنفيذي، والتشريع من مهام البرلمان دستورياً، والأخير بدوره لا يصدر القوانين اعتباطاً مهما صرخت الصحافة ومؤسسات الرأي العام، أو سارت المظاهرات؛ فلا بد من دراستها ومناقشتها واستشارة الجهات المعنية، بما فيها الأجهزة التي ستقوم بوضع القوانين موضع التطبيق كالبوليس والسلطات المحلية والبلديات.
ولأن القضاء مستقل عن الجهازين التنفيذي والتشريعي، فإن مهمته تفسير الكيفية الإجرائية لتنفيذ هذه القوانين وتطبيقها، لأنه حتى عند مخالفتها لا يستطيع البوليس إلا أن يقدم مرتكب المخالفة للقضاء، ويدلي بشهادته من منصة الشهود.
كبار القضاة ممثلون في مجلس اللوردات، أي مجلس الشيوخ الذي تعرض عليه مشروعات القوانين بعد تصويت مجلس العموم بإصدارها، لمناقشتها، وتعديل ما فيها من غموض لغوي قد يسبب مشكلات مستقبلياً.
«التأخر أفضل من الغياب التام» مثل إنجليزي، يثلج الصدور الحزينة لوفاة ناتاشا التي فقدت حياتها ضحية لغياب معلومات أساسية من مغلف سندويتش بسيط. لكن دموع رضاء والديها أن قانون ناتاشا قد يجنب آلاف الآباء والأمهات مواجهة المأساة التي عصفت بحياتهما قبل ثلاثة أعوام.