د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

تهديدات الإسلام السياسي

خلال السنوات الثماني الأخيرة، حصل حراك في المجتمعات العربية، تمثل أحياناً فيما سمي الثورات على غرار تونس ومصر وليبيا، وفي بلدان عربية أخرى عرفنا احتجاجات سلمية وحركات إصلاحية من داخل الأنظمة القائمة نفسها.
إذن الحراك بصرف النظر عن أشكاله وتمظهراته هو حقيقة لا يمكن إنكارها أو التقليص من شأنها.
غيّر أن ما نلاحظه هو أن هذا الحراك لم يسِر في الاتجاه الذي وعد به في البداية، الأمر الذي جعل بلداناً مثل تونس ومصر وليبيا تعرف إخفاقاً في مجال التنمية السياسية وفي تجربتها الديمقراطية الوليدة. ولعل أكبر العوائق التي أسهمت في حصول مشاكل في المسار الديمقراطي؛ نذكر محاولات هيمنة «الإخوان» على هذه الفضاءات السياسية وتسجيل عودة قوية سريعة منذ حدوث الثورات كأنها حدثت من أجل عودتهم وكي يثأروا من الأنظمة التي حاربتهم وكانت لهم بالمرصاد.
إنّ الإخفاقات الحاصلة في تجارب الديمقراطيات الجنينية اليوم في بعض بلداننا تتحمل نصيب الأسد فيها الأحزاب الدينية التي عادت لتقتنص الفرصة وتملأ الطريق نحو الديمقراطية والمدنية بالتعثرات والإخفاقات.
أول مشكلة نتجت عن تقدم «الإخوان» للمشاركة السياسية والوصول إلى الحكم هي أنها أنعشت معارك آيديولوجية بات اليوم العالم في غنى عنها. وحتى الآيديولوجيات التي تجاوزها الزمن عادت للنشاط والصراع. بمعنى آخر أن الإسلام السياسي بوصفه إحدى أعتى الآيديولوجيات وأكثرها دوغمائية وصلابة وتعنتاً، قد استفز بعودته للنشاط الآيديولوجيات الأخرى النائمة، فكان الصراع والنقاشات المجانية التي أهدرت الوقت والجهد، وبدل الانشغال بالقضايا التنموية والإصلاحية هيمنت المعارك الآيديولوجية في الفضاءات العمومية العربية وفي وسائل الإعلام، وهذا في حد ذاته سوء تصرف في الطاقة والوقت وسوء إدارة للمشاكل ذات الأولوية الحيوية، التي من أجلها حصلت ثورات وتمّ التغيير.
المشكل الثاني أن هذه الأحزاب الدينية استفادت من الوضع الصعب الذي كانت تعاني منه أحزاب معارضة، الأمر الذي جعلها بعيدة عن الشعوب وغير مؤثرة. هذا الواقع السياسي لما قبل الحراك العربي في السنوات الأخيرة استثمرته الأحزاب الدينية لصالحها، فخاضت السباق مع أحزاب فاقدة للقواعد الشعبية وتم تسويق واقع فوزهم بالمقاعد البرلمانية وبالرئاسة بفضل شفافية الديمقراطية وأن صناديق الاقتراع أنصفتهم وأن الأغلبية في الشعوب العربية منحتهم أصواتها. وهكذا نلاحظ كيف بدأت الديمقراطيات الجنينية مشوهة وتتحكم فيها الأرصدة السلبية لمراحل ما قبل الثورات العربية. وهو ما يعني أن بدايات الديمقراطيات انطلقت بشكل ملتبس ومعقد وهي التي رسمت ملامح التجربة وضغطت على مسارها وطموحاتها.
الإيجابي الآن هو أن الشعوب بدأت تستفيق وبدأ يظهر وعي بخطورة الإسلام السياسي على حياة مجتمعاتنا وكيف أنه مضر للتنمية والتقدم، وطموحاته المسكوت عنها أبعد ما يكون عن حل المشاكل وأن ناشطيه يسيرون بنا إلى الوراء والخلف. طبعاً لا يعني هذا أن أمرهم انتهى، فهم أحزاب تكمن قوتها في قواعدها الشعبية التي تتميز بالانضباط وتقرأ حتى زيغهم عن المشروع الأصلي وتسييسهم للدين على اعتبار أنه ضرورة لتحقيق الغاية المتمثلة في بلوغ الحكم والتمكن من الإدارة العمود الفقري للدّولة.
المسألة الأخرى هي أن عدم معالجة المشكلات الاقتصاديّة وتراكم الأزمات المالية وتعطل قطارات التنمية القائمة على أسس سليمة ومفكر فيها، سيجعل من الإسلام السياسي أطول عمراً وسيستمر التهديد لأجل غير مسمى. لذلك فإن الخلاص من ظاهرة الإسلام السياسي وتوظيف الدين في السياسة والتأثير على الذين يعانون من الإكراهات الاقتصادية، يتمثل في تشغيل قطار التنمية وتخليص المواطن العربي من هاجس الجوع والخصاصة وسوء الحال وفاتورتي الماء والكهرباء ولو نسبياً.
إنّ التنمية الاقتصادية هي التحدي الذي سيكسب النخب التحديثية قواعد شعبيّة ويجعلها تسحب البساط من الإسلام السياسي وقياداته ومشروعه الظاهر والمستبطن في آن.
لقد بات واضحاً أن الديمقراطية وحدها غير قادرة على تأمين حياة سياسية يتسابق فيها الأجدر سياسياً بعيداً عن توظيف الدين. فالديمقراطية جعلت «الإخوان» يفوزون في تونس وفي مصر، وهو ما يؤكد أن ديمقراطية دون تنمية اقتصادية واستثمار وانخفاض معدلات الفقر والبطالة هي بمثابة أداة لتكريس التخلف والعودة إلى الوراء وارتهان الشعوب عند من يستطيع التنويم سياسياً بالدين أكثر.
فهل يصح الحديث عن الديمقراطية في الرّاهن العربي والحال أن الإسلام السياسي وحده المستفيد منها والأحزاب المدنية عاجزة عن المنافسة وهزمها بالأصوات؟
أظن أننا في لحظة لخبطة وبداية تحمل ترسبات سابقة وأبعد ما تكون عن ديمقراطية بشروط جديدة وبروح قيم المدنية والعقلانية.