جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

الحسرة على زمن ولّى!

بعد مضي أيام قليلة على الانتهاء من إحياء الذكرى الخامسة والسبعين للإنزال البحري للحلفاء في نورماندي، الذي علّم لبداية النهاية للنازية وحليفتها الفاشية، يعود الكاتب الأميركي جوزيف هيلر للظهور من جديد. هذه المرّة، عبر الممثل والمخرج الأميركي جورج كلوني الذي قام بإعداد النص الروائي، وتمثيل وإخراج رواية «كاتش 22»، في مسلسل تلفزيوني من ست حلقات، بثت القناة البريطانية الرابعة أولى حلقاته. الرواية خرجت للوجود عام 1961 وسبق أن حوّلت إلى فيلم سينمائي في بداية السبعينات، إلا أن الفيلم الذي أخرجه مايك نيكولاس لم يكتب له النجاح والانتشار الذي حظيت به الرواية، لذلك لم تُعَد التجربة من جديد، خشية الفشل، لأن النص الروائي، حسب رأي النقاد، غير قابل للتحويل إلى شريط سينمائي.
وفي سياق آخر، كان عنوان الرواية، أيضاً، مشكلة سببت انزعاجاً لكثير من المترجمين الذين سعوا لترجمتها إلى لغات أخرى، لفشلهم في إيجاد عنوان مقابل له في تلك اللغات، لكن النجاح والانتشار الذي حظيت به الرواية في الولايات المتحدة وبريطانيا في نصها الأصلي جعل كثيراً من النصوص المترجمة تلجأ إلى الصدور بالعنوان الأصلي.
ويقال، أيضاً، إن هيلر كان كثيراً ما يلتقي بأشخاص قرأوا الرواية، يقولون له، صراحة، إنه لم يكتب شيئاً بجمال وقوة «كاتش 22»، فكان يقابل ذلك بالضحك، ثم يجيبهم بأن لا كاتب آخر فعل ذلك أيضاً.
لا أذكر أنني صادفت ترجمة عربية للرواية، لكن ذلك لا يعني أنها لم تترجم، لأنه من الصعوبة بمكان تجاهل المترجمين العرب، ودور النشر العربية لرواية مثلها. ويبدو لي أن ترجمة العنوان إلى «الفخ 22» تعد الأقرب قاموسياً. لكن الترجمة القاموسية ليست مرضية، لكونها تفتقد لحيوية ومرونة معناه واتساعه في اللغة الإنجليزية، لذلك من الممكن الاجتهاد، واختيار عنوان آخر مثل «اللغز 22». وأعتقد، أيضاً، أن عدم الرضا عن الترجمة القاموسية ربما يدفع ببعض المترجمين الجريئين إلى البحث عن ترجمة للعنوان في اللهجات المحكية.
هيلر، المتوفى عام 1999، كتب الرواية من واقع تجربته الشخصية، كمجنّد في الحرب في السلاح الجوي، ضمن كتائب الجيش الأميركي. والرواية شهادته الدامغة ضد تلك الحرب، وكل الحروب، مستخدماً الكوميديا السوداء في السخرية منها. بطلها يصل إلى استنتاج مفاده بأن عدوه الحقيقي هو الموت، الذي لا يأتي من مدافع الألمان المضادة للطائرات وحدها، بل، وكذلك، من أوامر رؤسائه الذين يرسلون به في طلعات جوّية خطيرة، قد لا يعود منها حيّاً. وبالتالي، فإن الألمان ورؤساءه، على السواء، أعداء بالنسبة له. لذلك، يفعل كل ما بوسعه لتفادي الذهاب في تلك المهام الخطرة، إلى درجة ادّعاء الجنون. لكن الطبيب المسؤول يرفض الامتثال لطلبه، موضحاً أن قبوله القيام بتلك الطلعات والمهام الخطرة يعد جنوناً، لكن رفضه تنفيذها بادعاء الجنون دليل على عدم جنونه، وهو ما تعارفوا على تسميته «كاتش 22».
خلال المدة الأخيرة، انتهيت من قراءة رواية أخرى، من روايات الحرب، اسمها «حطب سراييفو» للجزائري سعيد خطيبي، تدور أحداثها بين مدينتي الجزائر وسراييفو، خلال فترة الحرب ضد الإرهاب في الأولى، وحرب التقسيم في يوغوسلافيا سابقاً، ومدينة بلوبيان في سلوفينيا. وإذا كان هيلر قد لجأ إلى الكوميديا السوداء، في روايته لإدانة الحرب والسخرية منها، فإن خطيبي يلجأ إلى كشف ما أحدثته حرب سنوات الجمر العشر ضد الإرهاب، وما أحدثته حرب تقسيم يوغوسلافيا في نفوس شعبي البلدين من تشوهات نفسية، ويتتبع، بتفاصيل مرعبة، تداعيات الخوف من الموت في النفوس، والبحث عن مهرب إلى حيث يمكن للذات أن تستعيد إنسانيتها المهدورة.
لكن أن تقرأ عن الحرب شيء، وأن تعيش التجربة، ولو من على مسافة، شيء آخر مختلف. ذلك أن تجربة الحرب في ليبيا، خلال الأعوام الثمانية الماضية، ليست هيّنة. ومما يزيد في صعوبتها أنها حرب، بين أطراف كثيرة، تتنازع وتتقاتل بغرض الاستحواذ على المال العام، وأن ما أريق فيها من دماء، وما دمّر فيها من بنيان، وما أحدثته، وما زالت، في النفوس من دمار ورعب، وما كشفت عنه من وحشية خلقت كلها مجتمعة، حالة من هلع ودهشة وعدم تصديق بين الليبيين أنفسهم، وهم يرون ما يحدث لهم، وما يرتكب من جرائم، أمام أنظارهم وأسماعهم، ليس بفعل غرباء، أو غزاة مستعمرين، الأمر الذي جعل كثيراً منهم يكتشفون، فجأة، أن الحرب جاءت لتسقط عنهم ورق التوت، ليروا أنفسهم على حقيقتها، وهي حقيقة مرعبة جداً إلى درجة أنهم صاروا يلتفتون إلى الخلف متحسرين، على عهد ولّى، وأيام تلاشت، كانت المشانق تُنصب فيها علناً لهم، ولأولادهم في الشوارع، والساحات، أمام أعينهم وهم مسكونون بالخوف والذل والمهانة، وتتولى أجهزة الإعلام تصويرها حيّة وبثّها مباشرة في جميع أنحاء البلاد، والعالم!
ما أبهج المرارة.