مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

خمس سنوات منذ تدنيس «الجامع النوري» من قبل البغدادي

تحل الأسبوع المقبل الذكرى الخامسة على الظهور الغريب لزعيم تنظيم «داعش» الإرهابي أبو بكر البغدادي في «الجامع النوري» الأثري في الموصل وإعلانه الباطل عن «الخلافة». كان خطاب البغدادي من على المنبر الأثري للجامع الذي يعود إلى أكثر من 8 قرون هدفه الحصول على شرعية دينية لم ينلها البغدادي إطلاقاً. خمس سنوات مرت على مدن وبلدات عراقية وسورية عانى أبناؤها من ظلم تنظيم «داعش» وفكره الظلامي، ومن تبعات المعارك الضارية لإنهاء وجوده فيها. عند ظهور البغدادي في «الجامع النوري» كانت هناك قناعة لدى غالبية العراقيين، وخاصة أبناء الموصل، بأن عهد البغدادي لن يدوم طويلاً لكنه كان من الصعب عليهم أن يتخيلوا مدى الدمار الذي سيخلفه. وكانت هزيمة «داعش» العسكرية مؤكدة منذ البداية، خاصة بعد أن احتشدت 69 دولة لتشكيل تحالف دولي لهذا الغرض. ولكن على الرغم من سنوات من الاستعدادات والمؤتمرات الدولية والبحوث في المؤسسات الفكرية لم تخرج بالنتائج المرجوة من حيث الإعداد لمرحلة ما بعد «داعش». ما زالت مدن مثل الموصل والرقة والفلوجة وغيرها تعاني من ثلاث ويلات؛ أولها انعدام إعادة إعمار جدي فيها، ثانيها عدم إقرار برنامج ملموس لمحاسبة المسؤولين من «داعش» ومن الجهات التي سمحت لـ«داعش» بالانتشار والسيطرة على تلك المناطق، وثالثها وربما أكثرها خطراً انعدام وجود أية جهود ملموسة لإعادة نسيج المجتمعات التي سعى تنظيم «داعش» إلى تدميرها.
الذكرى الخامسة لخطاب البغدادي المشؤوم ليست مهمة بحد ذاتها، ولكن تأتي للتذكير بجرم ذلك التنظيم الإرهابي وللتذكير بضرورة معالجة مخلفات تلك الحقبة. فيوم أمس، تم الإعلان عن تسليم 12 يتيماً فرنسياً من أبناء مسلحي «داعش» إلى الدولة الفرنسية، وطفلين يتيمين إلى الدولة الهولندية. ما زال المئات من الأيتام والأرامل ينتظرون حلاً من دول غربية تعاني من انعدام آليات أو قوانين للتعامل مع ظاهرة هذا التنظيم الدولي الإرهابي. مسألة أيتام «داعش» ربما تعد المسألة الإنسانية الأكثر إلحاحاً المتعلقة بالمقاتلين أنفسهم، ولكن هناك قضايا أخرى من بينها كيفية محاكمة المسلحين والذين أجرموا في حق العراقيين والسوريين وغيرهم من ضحايا التنظيم الإرهابي. قرار العراق بمحاسبة المعتقلين من أعضاء «داعش» الذين أجرموا على أراضيه بموجب القانون العراقي هو القرار السليم. ولكن هناك ضرورة تحمّل الدول التي عبر من خلالها مجرمو «داعش» مسؤولية أيضاً ومعرفة من سمح لهم بالعبور إلى العراق وسوريا ومن ثم محاسبتهم.
التبعات الدولية لظاهرة «داعش» تبرز من خلال أزمة المحاكمات والأيتام وغيرها. ولكن في الواقع فإن أبناء المدن التي احتلها مقاتلو «داعش» هم المتضررون الأوائل والذين لم ينالوا حقوقهم بعد. أموال طائلة خصصت لإعادة إعمار تلك المدن لكن غالبها لم يتم صرفها. محاولة الحصول على إحصائيات دقيقة من المنظمات الدولية حول الأموال التي صرفت على إعادة الإعمار لا تجلب نتائج دقيقة.
بقاء البغدادي على قيد الحياة، وبثه للتسجيلات التي لم تعد تؤثر في مسار الأحداث في العراق أو سوريا، لم يعد مهماً. فقد فشلت محاولته على «أرض» الخلافة الباطلة. كما أن مقتله لن يغير شيئاً. ولكن أضرار «داعش» ما زالت ملموسة في العراق وسوريا ويجب عدم نسيانها أبداً. من المثير أن بعد 5 سنوات من تفشي «داعش» مثل الوباء في الموصل وبعد ما يقارب سنتين من الإعلان عن تحريرها، تقول الجهة الأممية المسؤولة عن إزالة الألغام إن عملية تخلص ثاني أكبر مدينة في العراق من الألغام التي زرعها مسلحو «داعش» قد تستغرق عشرة أعوام. وقد صرح مسؤول «يونماس» في العراق بير لودهامر لـ«إذاعة صوت أميركا» قبل بضعة أسابيع بأن عودة النازحين للمدينة القديمة في الموصل مستحيلة قبل إزالة جميع المتفجرات. وتقدر الأمم المتحدة أن تنظيم «داعش» خلف عشرات الآلاف من المتفجرات، وخلال العام الماضي فقط تم إزالة 17 ألف متفجر، من عبوات وألغام وغيرها من عبوات ضارة. تلك المفتجرات وأضرارها ترمز لمدى الضرر الذي ما زال يخلفه التنظيم حتى وإن لم يعد يستطيع السيطرة على أراضٍ داخل العراق.
رفضُ أهالي الموصل بشكل خاص، والعراقيون والسوريون بشكل عام، لـ«داعش» أدى بمقاتليه إلى تفجير الجامع النوري ومنارته «الحدباء» قبل الهروب. الهدف من ذلك التفجير كان ضمن أهداف «داعش» لمحو هوية الحضارة العربية الأصيلة في الموصل مثلما فعلوا بتدمير آثار تدمر وغيرها من آثار تدل على الحضارة التي ستبقى عامرة ليس فقط بعد 5 سنوات من خطاب البغدادي ولكن حتى بعد 5 قرون منها، وهذا ما أثبته الكثيرون من العراقيين والسوريين.
وربما أفضل تلخيص لما حدث في الموصل وعزيمة الشباب على العيش جاءت على لسان ابن أم الربيعين المصور والمدون علي البارودي الذي كتب على صفحته في «فيسبوك» قبل خمس سنوات: «هذه ليست وصية.. كما أنها ليست رسالة استسلام أو جرعة يأس.. فأنا محب للحياة حبهم للموت وأكثر وسأعيش الحياة حتى يأخذ الله أمانته». ما زال علي اليوم يعيش في الموصل ويلتقط ما هو جميل فيها. وأمثاله هم أفضل سلاح ضد «داعش».