كاس آر. سنستاين
خدمة «نيويورك تايمز»
TT

تجربة رائدة في نيوزيلندا

أقدمت الحكومة الائتلافية في نيوزيلندا، بقيادة حزب العمال، على أمر قد يكون تاريخياً، ذلك أنها بقيادة رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن صاغت أول موازنة «سلامة» في العالم، التي تركز برمتها على هدف واحد فحسب: استغلال الأموال المحدودة المتاحة في تعزيز سلامة مواطنيها.
ومن بين أمور أخرى، سيجري تخصيص كثير من المال للتعامل مع ثلاث مشكلات محددة: الأمراض الذهنية، وفقر الأطفال، والعنف الأسري.
الواضح أن نيوزيلندا تأثرت بثلاثة عقود من الأبحاث التي ركزت على مصادر سلامة الفرد. ومن بين المساهمين في هذه الأبحاث العالم الحائز جائزة «نوبل»، دانييل كانيمان، والراحل آلان كروغر الذي خلص إلى نتائج مهمة بخصوص العوامل التي تعزز سلامة الأفراد والأخرى التي تقوضها. وفيما يخص السياسات العامة، طرح كانيمان وكروغر توصيتين؛ دارت الأولى حول «التركيز على التدخلات بمجال الصحة الذهنية»، والتي ترمي لمعاونة «قطاع عريض من السكان يقضي جزءاً كبيراً من وقته في حالة غير مرضية». أما الثانية فتتعلق بضرورة «التركيز على تخصيص الوقت» من خلال معاونة الأفراد على التحول بعيداً عن النشاطات التي يمقتونها على نحو خاص (مثل التنقل في المواصلات العامة، التي قد تترك تأثيراً سلبياً كبيراً على البعض).
على صعيد أكثر طموحاً، تصدر شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، تقرير السعادة العالمي، الذي يتولى ترتيب 156 دولة تبعاً لمدى «تقدير مواطنيها لمستوى شعورهم بالسعادة». وفي جميع هذه الدول، يطلب من الأفراد تقييم حياتهم اليوم على مقياس من 0 إلى 10. مع الصفر يمثل أسوأ حياة ممكنة و10 تمثل الأفضل. ورغم أن الكثيرين قد يشككون في مصداقية نتائج هذا المقياس، فإن النتائج تبدو مثيرة للغاية. تبعاً للمقاييس التي اعتمدها التقرير، فإن أسعد دول العالم اليوم فنلندا والدنمارك والنرويج وآيسلندا وهولندا. أما الولايات المتحدة فتأتي في المرتبة الـ19 خلف بلجيكا مباشرة وقبل جمهورية التشيك. في القاع، توجد أفغانستان وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان.
ويحاول التقرير كذلك تحديد الأسباب وراء التقدير المرتفع والمنخفض للشعور بالسعادة عبر الدول.
وربما تكمن المفاجأة هنا في أن أهم العوامل على هذا الصعيد تتمثل في الدعم الاجتماعي، تبعاً لما ورد في إجابات الأفراد المشاركين على هذا السؤال: «إذا كنت في مشكلة، هل لديك أقارب وأصدقاء يمكنك الاعتماد عليهم في أي وقت تحتاج إليهم، أم لا؟»، وتعتبر إجابة مواطني دولة ما على هذا السؤال بالإيجاب أو السلب محدداً مهماً لمدى شعورهم العام بالسعادة.
ويتمثل عامل آخر على القدر ذاته تقريباً من الأهمية في إجمالي الناتج الداخلي بالنسبة للفرد، ذلك أن الناس يميلون للشعور بسعادة أكبر بكثير في الدول الأغنى. أيضاً، يحمل العمر المتوقع أهمية كبيرة هنا. ومن بين الأسباب وراء ذلك أنه يعد مؤشراً جيداً على الصحة.
اليوم، تحتل نيوزيلندا المركز الـ8 بين دول العالم في مؤشر السعادة، ما يؤكد أنها تبلي بالفعل بلاءً حسناً. ومع هذا، ترغب حكومتها الائتلافية في تحويل تركيز الموازنة، بحيث تمثل سلامة المواطنين القضية المحورية التي تهتم بها كل وزارة من الوزارات.
وتبعاً للموازنة المقترحة، سيجري تخصيص نحو 600 مليون دولار، لتناول اضطرابات القلق والاكتئاب التي قد لا تتطلب الإقامة داخل مستشفيات، ومع هذا تخلف نتائج سلبية على حياة الناس. وبالنظر إلى أن الاهتمام الرئيسي ينصب على السلامة، ستتولى الموازنة كذلك تمويل برامج تستهدف مكافحة العنف الأسري وفقر الأطفال.
ومع هذا، تبقى ثمة تساؤلات مشروعة بخصوص تحديد أولويات الموازنة تبعاً لسلامة المواطنين. يتعلق التساؤل الأول بالفاعلية، فمن حيث المبدأ تبدو فكرة ممتازة تخصيص كثير من المال لمكافحة الأمراض الذهنية، لكن هل تفيد البرامج المعنية بالفعل؟ وبأي قدر؟
هنا، يبدو التقييم المستمر أمراً ضرورياً. وبالتأكيد سيكون من الأفضل لو أن الدول أنفقت أموالها على برامج تسعى لحل مشكلات متوسطة الحجم بدلاً عن إنفاقها على برامج لا تفعل سوى القليل، أو ربما لا تحقق أدنى استفادة في حل المشكلات الكبيرة.
أما التساؤل الثاني فيدور حول فكرة ما إذا كان من المنطقي تركيز الموازنة على برامج ومبادرات مرتبطة بالسلامة، ولا يمكن قياسها بدقة.
على سبيل المثال، من الصعب تقدير كيف أثرت الزيادات في ميزانية الدفاع على سلامة المواطنين، حتى وإن كان المواطنون يتعرضون لمعاناة مروعة عندما تصبح بلادهم مهددة بالحرب، أو تتورط بالفعل فيها. كما أننا لا نعرف على وجه الدقة مدى تأثير البرامج البيئية على سلامة الأفراد. جدير بالذكر أن موازنة نيوزيلندا تشدد على الحاجة إلى التحول لاقتصاد يقوم على انبعاثات كربونية منخفضة ـ في اعتقادي هدف يستحق الإشادة، لكن ليس من السهل ربطه بالأبحاث المتعلقة بالسلامة.
أما التساؤل الثالث، فيدور حول النمو الاقتصادي، فالموازنة النيوزيلندية الجديدة ربما تبدو للبعض وكأنها تقلل أهمية النمو الاقتصادي، وإجمالي الناتج الوطني لصالح التأكيد على سلامة الأفراد، لكن ثمة بيانات جديدة منها ما ورد بتقرير الأمم المتحدة، توحي بأن النمو الاقتصادي عامل محدد محوري في السلامة. وبالتالي، لا ينبغي تجاهله.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»