د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

قمة مكة وفلسطين... إعادة تثبيت الحقوق الراسخة

أحسنتْ قمة مكة لمنظمة التعاون الإسلامي في تأكيد مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة إلى العالمين العربي والإسلامي، بمنظورها القومي واستعادة الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني في القدس وحق العودة والدولة المستقلة على أراضي الضفة الغربية المحتلة ورفض الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي. أهمية هذا التأكيد ترتبط مباشرةً بالحديث عن الصفقة الأميركية التي لم تُعلن بعد رسمياً، غير أن ما تسرب منها، وهو أيضاً غير رسمي، يرجح استناداً إلى التصرفات الأميركية وتصريحات جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترمب، والمسؤول عن إعداد تفاصيل الصفقة، أن المبادئ الأساسية التي تقوم عليها تلك الصفقة تعتمد على إعادة تعريف مجمل أبعاد القضية الفلسطينية ونزع الصفة القومية عنها، والوارد ذكرها في القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة، وإعادة تقديمها وفق مفهوم يستبعد فكرة الاحتلال الإسرائيلي لأراضي الغير، ويلغي تماماً مسؤولية إسرائيل كقوة احتلال عن حل القضية، ويسعى إلى تحميل المجتمع الدولي المسؤولية من منظور اقتصادي تقني، وليس من منظور سياسي قومي.
تأكيدات قمة مكة تزامنت مع انهيار عملية تشكيل الحكومة الإسرائيلية بزعامة نتنياهو، واتخاذ الكنيست قراراً بحل نفسه وانتخابات برلمانية جديدة تُجرى في سبتمبر (أيلول) المقبل، ما يعني أن الحكومة التي يقودها نتنياهو ستظل حكومة تصريف أعمال لا يحق لها عُرفاً اتخاذ قرارات مصيرية من قبيل إجراء مفاوضات أو تقديم تنازلات أو توقيع معاهدات كبرى تخص الحرب والسلام، في الآن ذاته فإن قدرة إدارة الرئيس ترمب على طرح تلك الصفقة بمكوناتها الاقتصادية والسياسية كاملة في ظل حكومة إسرائيلية لتصريف الأعمال تبدو منعدمة، أو على الأقل مشكوك فيها، فكل ما تفعله تلك الإدارة يصب في مساندة إسرائيل واليمين ونتنياهو شخصياً. وكان السياق العام يوحي بأن نتنياهو سيشكّل حكومة يمين قوية تستطيع أن تساير الصفقة الأميركية وتستفيد من كل بنودها من دون ثمن كبير، أو ربما بلا ثمن على الإطلاق. وإذا وضعنا جدول الرئيس ترمب الخاص بإعلان ترشحه للسباق الانتخابي الرئاسي في غضون شهر أو شهرين من الآن، أي قبل انتخابات الكنيست الإسرائيلي المقررة في سبتمبر، سيصبح إعلان الصفقة بلا معنى، لا سيما أن تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة حتى في حال فوز نتنياهو سيتطلب شهرين حتى نوفمبر (تشرين الثاني)، وهو شهر حاسم بالنسبة إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية، إذ يشهد البداية المحمومة لتلك الانتخابات بكل ما فيها من مفاجآت وانتقادات ومناورات وتشويه مدركات الرأي العام الأميركي والدولي معاً.
الحقائق السابقة مجتمعةً ترجّح أن الصفقة الأميركية لن ترى النور قريباً، وربما إلى سنوات طويلة مقبلة. ولذا فإن أهمية تثبيت الأبعاد القومية للقضية الفلسطينية في مثل هذه المراحل الملتبسة، كما فعلت قمة مكة، يعد خطوة مهمة بكل المقاييس، كما أنها ترد بشكل مباشر على كل الانتقادات التي تُوجه إلى بعض العرب بأنهم مشاركون في تصفية القضية الفلسطينية. ويبقى على الفلسطينيين جزء رئيسي في إعادة ضبط المعادلات التي تحيط بهم، وفي المقدمة استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وإنهاء الانقسام الذي تجاوز الآن 12 عاماً ورفع المعاناة وأغرى قوى خارجية على التدخل في الشأن الفلسطيني لمصالح ذاتية لا لمصلحة الفلسطينيين أنفسهم.
التمسك الإسلامي والعربي بتعريف القضية الفلسطينية كقضية قومية بأبعادها السياسية والتاريخية يتطلب جهداً متواصلاً وعملاً جماعياً إسلامياً وعربياً، لا سيما أن الرؤية الأميركية التي طُبق منها بعض الخطوات فعلياً بشأن القدس والجولان ووكالة غوث اللاجئين «أونروا» تصبّ جميعها في اعتبار القضية الفلسطينية أمراً يتعلق بحقوق بلدية في أفضل الأحوال للتجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، وتجاهل تام لعنصر الأرض المحتلة والوطن القومي، والتملص من حق العودة، والتركيز على توطين الفلسطينيين في البلدان التي تستضيفهم، والتلويح بتعويضات وعوائد اقتصادية لتلك الدول، وإعادة رسم خرائط بعض الدول، وتثبيت الاحتلال الإسرائيلي، بل ومنحه الكثير من المزايا الاقتصادية التي توفرها الدول الغنية.
مسألة التوطين ليست جديدة، فمنذ الخمسينات وهناك أفكار أميركية طُرحت بصورة غير رسمية دعت إلى التخلي عن حق العودة، لكن هذه المرة يختلف الوضع جذرياً، فالإدارة الأميركية تتبني الطرح رسمياً، وتوظّف كل قدراتها ونفوذها الدولي لتمرير رؤيتها، مع التلميح بعقوبات أو ضغوط على مَن يرفض. وبالطبع هناك حالات عربية يؤدي مثل هذا الطرح الأميركي إلى تغيير كامل في منظومتها السكانية وله تبعاته الهائلة على النظام السياسي فيها، ويبرز لبنان في المقدمة. وهناك حالات يتم تداولها إعلامياً تربط التوطين، وفقاً للمفهوم الأميركي، بالتخلي عن أجزاء من أراضيها كمصر والأردن، ودول أخرى يُشار فيها إلى مناطق شاسعة ذات فراغات سكانية تحتمل توطين ما بين مليون إلى مليونين فلسطيني من دون أن يكون هناك تأثير يُذكَر على المنظومة العامة في البلد، ويبرز العراق ثم سوريا كنموذجين يتم تداولهما.
الافتراض الأميركي في كل هذه الحالات أن تنازلات تلك الدول يمكن تعويضها اقتصادياً ومالياً، والأرقام المتداولة سخية للغاية، وهي عبارة عن وعود مفترضة. ويسرد الإعلامان الأميركي والإسرائيلي أخباراً مجهّلة بأن دولاً من الشرق والغرب سوف تقبل بكل سهولة أن تدفع عدة مئات من مليارات الدولارات إرضاءً للولايات المتحدة ولتصفية القضية الفلسطينية، وأيضاً لإقناع تلك الدول بأن تنازلها فلسطينياً سوف يؤدي إلى إخراجها من أزماتها الاقتصادية الطاحنة، وتطرح وعوداً غير ممكنة عملياً.
ولا يهتم الجانب الأميركي بالرأي العام في تلك البلدان، ولا قناعات شعوبها الوطنية والقومية، ولا الارتباط التاريخي لهذه الشعوب بأرضها وكرامتها الوطنية. والمؤسف أن بعض ما يقال أكاديمياً في مراكز بحث في واشنطن يصب في تزييف الواقع العربي، ويصور الأمر من خلال استطلاعات رأي غير محكّمة علمياً، ومن خلال عينات عشوائية محدودة جداً، على أن الفلسطينيين في الضفة وفي المهجر قد تعبوا وأنهم يقبلون وعود الازدهار الاقتصادي باعتبارها قابلة للتحقيق، في حين أن حقوقهم السياسية والقومية لم تعد ممكنة. والأكثر أسفاً أن بعض الأبواق الإعلامية العربية تعيد نشر هذه الأوهام كأن قادة الدول العربية وساستها يرحبون بالأمر وينتظرونه على أحرّ من الجمر. ومرة ثانية وثالثة تضع قمة مكة النقاط على الحروف بما لا يسمح لضعاف البصر والبصيرة بأن يتجاوزوا في حق الآخرين.