فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

غلبة السوريين وحيرتهم

يبدو كأن السوريين بعد غلبتهم صاروا إلى متاهة عميقة، وصار من الصعب عليهم الخروج منها واستعادة حياتهم العادية على نحو ما يعيش بقية البشر أو السير باتجاه ذلك على الأقل، ما لم يبدّلوا تلك الصورة. ولا يقتصر ما صار إليه الوضع على عامة السوريين، بل يشمل نظامهم ومعارضتهم على السواء، بحيث إن أحداً من السوريين بغض النظر عن صفته أو مكانته، يستطيع أن يعرف إلى أين تسير القضية السورية، وإلى ماذا سيؤول وضع الدولة السورية ومصير مواطنيها!
وتتبدى حيرة السوريين وقلة حيلتهم على نحو واضح في التعامل مع مجريات الأحداث المحيطة بقضيتهم. ففي كل الاجتماعات، التي تُبحث فيها القضية السورية سواء في مستوى ثنائي أو ثلاثي أو أكثر، يغيب الحضور السوري، فلا النظام ولا المعارضة بين الحاضرين، والغياب مسجل للنظام في اجتماعات يحضرها حلفاؤه من الروس والإيرانيين، تماماً كما الغياب المؤكد للمعارضة في اجتماعات ينظمها أصدقاء الشعب السوري، وهي الصفة التي أحب هؤلاء إطلاقها على أنفسهم بدل أن يقال إنهم حلفاء تنظيمات المعارضة الرئيسية، التي تشكلت برعايتهم من المجلس الوطني السوري 2011 إلى الائتلاف الوطني 2012.
والمؤكد البارز على هامشية الدور السوري، هو قيام الآخرين بما على السوريين القيام به، وحتى في الحالات القليلة، التي يحضر فيها السوريون، فإنهم يحضرون شكلياً أو يمارسون دوراً هشاً سواء من الناحية السياسية أو العسكرية-الميدانية، والمثال الواضح على الدور السياسي الضعيف لنظام الأسد أن القرارات «السورية» تُتخذ في موسكو وفي طهران، أو بالتشاور بينهما، كما حدث عند إطلاق إعلان موسكو ديسمبر (كانون الأول) 2016 الذي جمع روسيا وإيران وتركيا وحدد ملامح مستقبل سوريا، ورسم لها خريطة طريق روسية تركية إيرانية، وجعل المهمة الأولى للدول الثلاث مكافحة «الإرهاب» لا حل القضية السورية.
والمثال السوري الثاني مستمَد من واقع وعلاقات المعارضة سواء في شقها السياسي أو العسكري. فقد تحول الائتلاف الوطني السوري إلى تابع للدولة المضيفة، خصوصاً بعد أن صارت تركيا في الأعوام الأخيرة الممول الرئيس لنفقات تشغيل مؤسسات الائتلاف، مما أدى إلى غياب أي سياسة مستقلة للائتلاف عن سياسات ومواقف أنقرة، والأمر في هذا لا يختلف كثيراً في واقع علاقة التشكيلات المسلحة للمعارضة في الشمال السوري مع الدولة التركية، ومن هنا يمكن فهم ما صرح به أحمد طعمة الرئيس السابق للحكومة السورية المؤقتة ورئيس وفد المعارضة في آستانة، من تفويض للأتراك بتمثيل المعارضة السورية في العلاقة مع الروس عندما انعقد مؤتمر سوتشي في يناير (كانون الثاني) 2018، وقد اختفت في حينها على نحو سريع اعتراضات تشكيلات المعارضة المسلحة على انعقاد سوتشي الذي كانت تصفه تحقيراً بـ«أنه بديل لمسار جنيف».
لقد تحول الوجود السياسي والعسكري للمعارضة السورية في الشمال السوري لخدمة السياسة التركية، وتبدى ذلك على نحو عملي في أثناء وبعد العمليتين التركيتين هناك: درع الفرات مارس (آذار) 2017، التي كانت حسب مدلولات اسمها في مواجهة تمدد قوات سوريا الديمقراطية، التي يقودها أكراد (pyd) باتجاه الغرب، وغصن الزيتون يناير 2018 التي استهدفت السيطرة على عفرين، وطرد قوات سوريا الديمقراطية منها.
ولا يشكل وضع النظام في علاقاته مع الروس والإيرانيين حالة أفضل من علاقات المعارضة مع الأتراك. فللروس والإيرانيين سيطرة شبه كاملة على الأوضاع العامة في مناطق سيطرة النظام.
ويشكّل الوضع الراهن في إدلب حالة نموذجية لضياع النظام والمعارضة، وتعبيراً عن عمق المتاهة التي صارا فيها. فالنظام الذي يملأ الفضاء ضجيجاً لاستعادة إدلب، فإنه يستعيدها لصالح الحليفين أكثر مما يستعيدها لصالحه أو لصالح السوريين. إذ تمثل استعادة السيطرة على إدلب اليوم تراكماً يدعم الوجود والمشروع الروسي في سوريا، كما أنها تمثل نجاحاً لإيران ومشروعها السوري، خصوصاً أن السعي لاستعادة إدلب يتزامن مع تحرك أميركي لدفع مسار التسوية السورية من جهة، وسعي لحصار إيران في سوريا من جهة أخرى.
ولأنه كانت مكاسب النظام في سعيه لاستعادة السيطرة على إدلب تبدو محدودة وهزيلة، فإن مكاسب المعارضة من صمود إدلب -رغم أنها مطلوبة- تبدو محدودة وهزيلة أيضاً. فالصمود في إدلب ومنع قوات النظام وحلفائها من السيطرة على آخر «مناطق سيطرة المعارضة»، سيصبان في مصلحة جبهة تحرير الشام المحسوبة على «القاعدة» في جماعات التطرف والإرهاب، وهي التي أثبتت على مدار السنوات الماضية عداءها لثورة السوريين ومطالبهم من أجل الحرية والعدالة والمساواة، والتي قامت بتصفية تشكيلات الجيش الحر وقادته عبر عمليات شنتها تزيد بمرات عما قامت به من أعمال ضد قوات الأسد وحلفائه، والأكثر من ذلك أنها دمرت كل فرص صمود أهالي إدلب وسكانها، وحولت حالتهم إلى مزيد من الانغلاق والتشدد والتطرف، وسيصب صمود إدلب في مواجهة حرب النظام في المصلحة التركية، إذ سيعطي تركيا ورقة هذه المنطقة لاستخدامها في مواقفها وسياساتها سواء في تحالفاتها أو صراعاتها مع الروس والأميركيين في المرحلة المقبلة.
سيظل السوريون في الغلبة والحيرة وسط المتاهة، ماضين إلى مزيد من التردي وتدهور حالتهم ما لم يحدث تبدل جوهري من جانب الفاعلين الأساسيين فيهم. الأهم والأخطر حالياً ما يصيب السوريين من أهالي وسكان إدلب الواقعين تحت سيطرة جماعات التطرف المسلحة وأولاها هيئة تحرير الشام، وفي ظل قصف طائرات النظام والروس عليهم، خصوصاً القصف بالبراميل المتفجرة، بالتزامن مع هجمات جنود النظام والميليشيات الحليفة له، مما يزيد أعداد القتلى والجرحى في أوساط المدنيين، ويرفع أعداد النازحين الذين تقول الأرقام إنهم تجاوزوا نصف المليون شخص وأكثرهم مرميون في البراري والحقول وتحت أشجار الزيتون، هاربين من الموت بقصف الطائرات بلا طعام ولا ماء ولا دواء.