مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

المعركة على المستقبل

معركة المستقبل هي تلك التي تدور بين شركة «هواوي» الصينية وشركات أميركية مثل «غوغل» و«آبل». الحروب اختلفت غنائمها كما تختلف ميادينها، واليوم ميدان الحرب العالمية الثالثة ليس المسرح الأوروبي للعمليات كما كان في الحرب الثانية، أو المسرح الآسيوي، بل مسرح هذه الحرب وميدانها هو فضاء التكنولوجيا الحديثة التي ترسم ملامح المستقبل.
الولايات المتحدة على ما يبدو قررت اختبار قدرات الصين بالتلويح بتهديدات وعقوبات على شركة «هواوي» الصينية والشركات التابعة لها ومنعتها من شراء أي منتجات أميركية، ومع ذلك يرى خبراء التكنولوجيا أن شركة «آبل» هي الخاسر الأكبر من هذا القرار الأميركي وليس شركة «هواوي»، فإذا قررت الصين مقاطعة شركة «آبل» فإنها تخسر 26 في المائة من قيمة أرباحها في العام المقبل.
«هواوي» الصينية اليوم هي المؤسس الحقيقي للبنية التحتية لخدمات «الفايف جي» (5G) في العالم وملكة هذه التكنولوجيا.
بالطبع الـ«5G» هي ليست حروب الجيل الخامس كما يسميها من لا يعرفون الكثير عن الحروب. حروب الجيل الثالث أو الرابع أو الخامس هي ليست حروب الـ«3G» والـ«4G»، كما أن أنواع الحروب لا تصنف هكذا، ولكننا ابتلينا بخبرائنا الجدد.
الحروب حتى الآن نوعان: حروب تقليدية بين الجيوش النظامية وبعضها، بين دولة ودولة، أما الحروب غير التقليدية فهي الحروب غير المتكافئة (asymmetrical warfare)، عدا ذلك فنحن نتحدث عن الحروب بشكل مجازي لا بشكل فعلي، فليست هناك حروب اسمها حروب الجيل الخامس إلا مجازياً.
الحرب التكنولوجية أو المنافسة التكنولوجية حتى الآن بين الصين وأميركا هي حرب على تشكيل المستقبل؛ أيّ أنواع التكنولوجيا ستحكم؟ من المتفوق تكنولوجياً، وبالتالي اقتصادياً؟ وأيهما الدولة العظمى الأولى في العالم؟
في كلمة ألقاها المفكر الأميركي من أصل ياباني فرنسيس فوكوياما أكد فيها أن القرن الحالي الذي نعيشه هو قرن الصين، بمعنى أن الصين ستهيمن على النظام العالمي. بالطبع لن يكون النظام الصيني هو نهاية التاريخ الإنساني، فما زال فوكوياما مصراً على أن النظام الديمقراطي في صيغته الليبرالية هو أفضل نظام حكم توصل إليه البشر.
الصين وصلت إلى نظام ديكتاتوري متميز يخص سرعة اتخاذ القرارات، ديكتاتورية شرعيتها الإنجاز وهي أخطر أنواع الديكتاتوريات، عندما يكون للديكتاتور إنجازات على الأرض، ليست دعاية كدعايات جوبل وهتلر. الديكتاتورية التي تجعل من الإنجاز أساس شرعيتها يمكن لها أن تكون منافساً حقيقياً للنظام الديمقراطي الذي يعد البطء في اتخاذ القرارات من سماته. فأي النظامين سيسود العالم؟ ومع ذلك ليست هذه معركة المستقبل. المعركة على المستقبل ميدانها التقدم التكنولوجي وواضح جداً للجميع أن التطور التكنولوجي في الصين أسرع منه في الولايات المتحدة الأميركية.
معركة «آبل» و«هواوي» أو «هواوي» و«غوغل» هي واحدة من تجليات المعركة الكبرى على المستقبل، فكما تعرف أعراق البشر وأصنافهم من التجليات الخارجية كنعومة شعر الرأس أو خشونته أو سمرة البشرة أو بياضها، فتلك انعكاسات فوقية وتجليات للخريطة الجينية للفرد «جينوتايب» (genotype) يعكسه «فينوتايب» (phenotype)، أي أن المظهر مؤشر للمخبر.
معركة «هواوي» و«غوغل» هي كذلك تجليات لأمور أعمق وخريطة جينية لمعركة تتشكل بين الصين والولايات المتحدة؛ فضاءاتها وميادينها الآن هي فضاءات التكنولوجيا.
تلك التكنولوجيا المذهلة التي تقدمها الصين الآن تحتاج إلى شرح مطول، فهي تأخذنا إلى عالم جديد وتعريف جديد لعالم ما بعد الحداثة مرسوم بفرشاة صينية، ولذلك تبعات ليست على العلاقات الصينية - الأميركية، ولكن علاقات العالم كله بعضه ببعض، وللحديث عن المعركة على المستقبل بقية في مقال مقبل.