إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

ثلاث قمم... وثلاث أولويات

أتذكّر جيداً زيارة قام بها أحد كبار الشخصيات الإسلامية اللبنانية إلى بريطانيا، واللقاء الذي عقده مع لفيف من الإعلاميين اللبنانيين المقيمين في سفارة لبنان بلندن عام 2000. تلك كانت مناسبة لا تُنسى ليس فقط لأن الشيخ الجليل رجل استثنائي في رجاحة عقله وسعة اطلاعه، بل لسرعة بديهته وحضوره المحبّب أيضاً.
استهل الشيخ اللقاء كلامه، باسماً، مبدياً إعجابه بنظافة لندن وخضرتها وتناسق معمارها، ولم يلبث أن بلغ «بيت القصيد»... فبدأ المقارنة مع بيروت وغابات إسمنتها وفوضويتها. ومن لبنان اتسع إطار الانتقاد إلى الوضع العربي، وتوقف طويلاً عند قضية فلسطين.
يومذاك، كانت قمة كامب ديفيد بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك قد انتهت للتو بالفشل، وأنحى مستضيفها الرئيس الأميركي بيل كلينتون باللائمة يومذاك على الرئيس عرفات لأنه رفض التساهل في موضوع القدس. وعن هذا الأمر قال الشيخ الجليل - كما أذكر تماماً -: «أنا، كما تعرفون لست رجل سياسة، بل مجرّد رجل دين. وبالتالي، لا يحق لي أن أعلّم الساسة أصول السياسة». ثم تابع قائلاً، في موضوع مفاوضات السلام الإسرائيلية - الفلسطينية: «وأنا أيضاً لبناني ولست فلسطينياً، وعليه لا يجوز لي أن أزايد على أي زعيم فلسطيني. ولذا أقول إن من حق ياسر عرفات أن يتصرف بحيفا وعكا، ويفاوض على يافا ويتخلى عن نابلس والخليل... لكن القدس ليست لياسر عرفات ولا لأي فلسطيني. القدس لي كما هي لكل مسلم من إندونيسيا إلى السنغال».
هذا الكلام هزّني جداً، ليس لأنه صادق فحسب، بل لأنه يوفّر أيضاً ذريعة سياسية صحيحة ومزدوجة للمفاوض الفلسطيني: أولاً، كي لا يضحي بأولى القبلتين وثالث الحرمين في سياق تفاوض ابتزازي لا طائل منه أمام خلفية غير متوازنة ورعاية دولية أبعد ما تكون عن النزاهة. وثانياً، لأنه يوقف المزايدة على الفلسطينيين والعرب داخل العالم الإسلامي. فإذا كان العرب مقصّرين في «تحرير القدس» فعلى الذين يزايدون عليهم، قارعين طبول الحرب الكلامية ليل نهار، أن يتحمّلوا مسؤولياتهم، ويغلّبوا القول على العمل. إذ «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»... والعرب، مع أن لغتهم لغة القرآن، ليسوا أكثر «إسلاماً» من سائر المسلمين.
مناسبة هذا الكلام طبعاً، القمم الثلاث، الخليجية والعربية والإسلامية، التي استضافتها بالأمس المملكة العربية السعودية في مكة المكرمة، أمام خلفية التهديدات العدوانية الإيرانية، واللغط المتزايد عما دُعي «صفقة القرن» في أعقاب نقل الولايات المتحدة سفارتها إلى القدس، وإعلانها اعترافها بـ«إسرائيلية هضبة الجولان المحتلة»، وتزايد العداء للمسلمين أمام خلفية أعمال إرهابية ارتكبت باسم جماعات وأفراد مشبوهين أو مضلّل بهم في أنحاء مختلفة من العالم.
القمم الثلاث، كما أعتقد، تأتي في مفصل زماني ومكاني وسياسي... تاريخي. إذ لم يسبق أن زُخّمت الهجمة الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية وتصفية هوية القدس الاستثنائية، كمدينة تلتقي فيها الديانات التوحيدية الثلاث، كما هي مزخّمة حالياً. كذلك لم يسبق أن بلغ الفجور في المزايدة السياسية حد إقدام ميليشيات طائفية تابعة ومأمورة إيرانياً على استهداف مكّة نفسها بالعدوان... بينما تعربد ميليشيات مشابهة في العراق وسوريا، وتهيمن في لبنان، وتحتل في اليمن وتخرّب براً وبحراً في دول الخليج العربي. وأيضاً، ما عاد مقبولاً السكوت عن استمرار دعم البعض جماعات مغامرة متطرّفة تزرع الإرهاب في أنحاء المعمور باسم الإسلام، لا سيما، أن هذا الإرهاب أخذ بالفعل يثير عداءً عنصرياً عميقاً حيال المسلمين في الغرب، مع تصاعد موجة الانعزالية السياسية ومعاداة الأجانب والنزوح والعولمة.
ومن ثم، فإن الموقف العلني الجامع الذي خرج به القادة المسلمون، بالذات من مكة المكرمة، وتبلور في بيان رسمي، يوجّه رسالة واضحة ويشكّل التزاماً معنوياً وأخلاقياً تجاه ثوابت الحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية ومصير القدس. وفيما يخص إيران، يضع هذا الموقف العالم كله أمام خطورة المخطط الإيراني التوسّعي الذي يهدّد النسيج الاجتماعي للعراق وسوريا ولبنان واليمن بعدما أدى إلى تدمير عشرات المدن والبلدات وتهجير ما لا يقل عن 20 مليون مواطن في العراق وسوريا وحدهما. واللافت أنه وردت الإشارة في قمم مكّة الثلاث إلى أن المسلمين يشكلون اليوم معظم النازحين واللاجئين في العالم، وهذا للأسف صحيح، وفي حين أن بعض هؤلاء من الفلسطينيين الذين عاشوا بؤس اللجوء منذ 70 سنة، فإن هناك ملايين غيرهم في أماكن متعددة من آسيا وأفريقيا، مثل باكستان وأفغانستان وميانمار (بورما) ومالي وغيرها.
وهنا، لا بد من الإشارة، إلى أن الإرهاب الذي يغذّي ظاهرة «الإسلاموفوبيا» يفاقم محنتي التهجير واللجوء، وقد يشكّل خلال العقود القليلة المقبلة مصدر خطر كبير على المسلمين داخل العالم الإسلامي وخارجه. وبالجدية ذاتها التي جرى فيها التطرق لقضيتي فلسطين وإيران، ينبغي ترجمة ما نصّت عليه مقرّرات القمم الثلاث إزاء التطرف والإرهاب. وفي هذا الإطار من المفترض أن يتكامل مَسعيان متوازيان: الأول، يتمثّل في تعزيز الوعي وقيَم التسامح والتعايش داخل العالم الإسلامي وأوساط الجاليات المسلمة المهاجرة. والثاني، يقوم على منع الأنظمة المتاجرة بالإسلام السياسي من استغلال النكسات التي تعرّضت لها مسيرة الانفتاح والديمقراطية في عدد من الدول العربية والإسلامية... فأقدمت على تمويل التطرف ورعايته والترويج له.
والحقيقة، أن عالمنا العربي، وكذلك العالم الإسلامي ككل، عانى طويلاً، وسيعاني أكثر، إذا ما واصل الهروب من مغامرة إلى أخرى، ومكافحة التطرف بتطرف مضاد. ولقد آن الأوان لكي يدرك أولئك الذين يغذّون الحركات المتطرفة تحت أي ستار، بما فيها التصدي للتسلط والديكتاتورية، أنهم عملياً - بقصد أو من دون قصد - يخدمون القوى التي يزعمون العمل على إضعافها.
من دون شك، الأمور لن تتحسّن بين ليلة وضحاها بقرارات أو بيانات، غير أن المنطقة العربية، من الجزائر إلى السودان، ومن اليمن إلى الخليج والهلال الخصيب... ستواجه مزيداً من التعقيدات في غياب مقاربات مخلصة وعاقلة كتلك التي أطلقت من مكة.