إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

السجناء ينتخبون

يتوجه الفرنسيون، اليوم، للإدلاء بأصواتهم في انتخابات البرلمان الأوروبي. إن هناك 47 مليوناً يحقّ لهم التصويت. لكن التوقعات تشير إلى أن عدد الذين سيمارسون هذا الحق، وينزلون من بيوتهم للتوجه إلى مراكز الاقتراع، لن يزيد على 22 مليوناً. هذه هي العناوين العامة. أما في الهوامش فهناك ما يستحق الالتفات. إنها المرة الأولى التي تقبل فرنسا فيها تصويت فئة من ذوي الاحتياجات الخاصة، هم المصابون بإعاقة ذهنية. كما جرى السماح للسجناء بالمشاركة في الانتخابات.
في سجن «فلوري ميروجيس»، القريب من باريس، مارس السجناء حقهم في اختيار ممثليهم في البرلمان الأوروبي. وهذا السجن هو أكبر مركز للاحتجاز في أوروبا. يقيم في زنازينه 4 آلاف شخص، منهم من يقضي أحكاماً خفيفة، ومنهم من يقبع في قسم معزول مخصص للخطرين، أو لمن يتهدد الخطر حياته، خشية الانتقام. وبين هؤلاء ضباط شرطة سابقون مدانون بتهمة الفساد، أو قضاة، أو محامون، أو محكومون بتهم اغتصاب أطفال وقتلهم. ونظراً لصعوبة تأمين سير الانتخابات، فقد تقرر إجراؤها قبل ثلاثة أيام من الموعد المقرر لعموم الناخبين.
وتشير أرقام الداخلية الفرنسية إلى وجود أكثر من 5 آلاف محتجز يحق لهم التصويت. وكان ألف سجين منهم قد كتبوا رسالة إلى وزيرة العدل، يطالبون فيها بالسماح لهم بممارسة «واجبهم الوطني». إن العقوبة، في الغالب، لا تعني الحرمان من الحقوق المدنية. والقضبان تحجز الأجساد، ولا تمنع حرية الرأي. حتى القاتل يستطيع أن يقول كلمته. وهو إذا كان محكوماً بالمؤبد، فإن أوروبا، وما يصدر عن برلمانها من قوانين، تخص أهله ومستقبل أولاده. وجاء في تصريح لأحدهم أن «السجين ليس ميتاً، والحياة ليست للطلقاء فحسب». نعم هو مجرم، لكن لائحة حقوقه محفوظة، وشهادته مسموعة، وليس مثل مربّي الطيور «المطيرجيّة» الذين يمتنع القضاة عندنا عن قبول شهاداتهم في المحاكم.
توجه 472 سجيناً إلى موقع التصويت، وكتبوا أسماء القوائم التي يمنحونها أصواتهم في مظروف صغير. وضعوا المظروف في مظروف أكبر. وجمع مدير السجن كل المظاريف وختمها، بحضور شهود ومراقبين، وأرسلها إلى مفوضية الانتخابات. لم يكن المكان مهيأ لإقامة مقصورات معزولة بالستائر لحفظ سرّية التصويت. لذلك تمت العملية في فسحة بين خزانتين من خزائن حفظ الثياب. ولاحظ صحافي كان حاضراً في المكان أن آراء السجناء تباينت ما بين محبط من الاشتراكيين أو من سياسة الرئيس ماكرون وبين مؤيد للمتطرفين. كانت هناك صيحات تُسمع من وراء الجدران: «انتخبوا لوبين»!
في أواخر 1991، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً ينص على عدد من المبادئ لحماية الأشخاص المصابين بمرض عقلي. وصدر إعلان يتضمن حقوق المعاقين، ومنها الحقوق المدنية، حتى لو كانوا تحت الوصاية. يستطيع المقعدون والمعطوبون الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات. واليوم، تشهد مراكز الاقتراع في فرنسا، وللمرة الأولى، مشاركة أشخاص يعانون من تخلف ذهني. والسذاجة لا تعني حرمان صاحبها من أن يكون له رأي في أمور القارة التي يعيش على أرضها. وعدد هذه الفئة من المواطنين يزيد على مئات الآلاف. وكان المعتل عقلياً يحتاج، في السابق، لقرار من قاضٍ يجيز له التصويت. لكن الحق بات مُطلقاً من دون محاكم ولا قضاة، مع تسهيلات خاصة للتسجيل في اللوائح الانتخابية، وتغاضٍ عن المهلة المقررة للتسجيل.
أكتب وأنا أحاول أن أقمع نفسي من أي محاولة للمقارنة بين ما عندنا وما عند الأوروبيين. لكن الطبع غلّاب. ففي بلادهم، يسمحون للمتخلفين عقلياً بالانتخاب. وفي بلاد تعرفونها، ينتخبونهم في البرلمان.