مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

خفيف ظل وخفيف عقل

ذكرت صحيفة «الغارديان» أنّ رجلاً هولندياً اتخذ قراراً استثنائياً أن يصبح أباً لأكثر عدد من الأشخاص، بعد أن تحول إلى «متبرع دائم» في بنوك الحيوانات المنوية وعيادات الإنجاب في هولندا.
وبدأت قصة لويس حيث عانى من الوحدة الشديدة؛ حيث يعيش من دون أي زوجة أو عائلة، فقرر التبرع بالسائل المنوي كلما تسنى له ذلك، وهو ما حصل فعلاً؛ حيث أسهمت تبرعاته بإنجاب ما لا يقل عن 200 طفل، وقال لويس: «بدأت بالتفكير، من سيتذكرني عندما أرحل؟»، وأضاف: «أتوقع أن خوفنا الحقيقي في الحياة هو ليس الموت، بل ألا يتذكرنا أحد بعد موتنا».
الأمر المحزن أن السيد لويس قضى نحبه – أي مات - قبل شهر، دون أن يتذكره أو يبحث حتى يسأل عنه أي واحد أو واحدة من ذريته، فقد عاش وحيداً ومات وحيداً، ولم يشيعه إلى قبره غير صانع تابوته.
ولأول مرة بدأت أشك بالمقولة المتداولة التي جاء فيها... ما مات من خلّف.
***
سأل أحد القساوسة رواد الكنيسة؛ من منكم يريد الذهاب إلى الجنة؟! فوقف الجميع إلا رجلاً واحداً، وبعد ذلك سأل القسيس؛ من يريد الذهاب إلى جهنم؟ فلم ينهض أحد.
وقال القسيس الحائر للرجل الذي لم يقف في المرتين؛ أنت إلى أين تريد الذهاب؟! فأجاب الرجل؛ لا أريد الذهاب إلى أي مكان، إنني أحب البقاء هنا.
وكان هذا الجواب أصدق جواب سمعته، فهذا الرجل متصالح مع نفسه إلى أبعد الحدود، فهو لا يريد أن يكذب ولا أن يتجمّل، أما بالنسبة لي فإنني لا أتمنى أن أموت إلا على المحجّة البيضاء.
***
ذهبت قبل أيام إلى طبيب عيون للكشف على نظري، «وفرد» أمامي ورقة، قائلاً لي؛ اقرأ المكتوب على هذه الخريطة، فقلت له متعجباً؛ عن أي خريطة أنت تتكلم؟! إنني لا أرى أي خريطة، فردّ عليّ قائلاً: الحمد لله، فقد ثبت أن بصرك سليم، ففعلاً ليست هناك أي خريطة، ثم أتبع كلماته ببعض القهقهات وهو «يترقص»، فعرفت أنه أراد أن يخفف دمه.
فوقفت وشكرته، وأنا «ممتعض»، وخرجت دون أن أكمل بقية الكشف.
وبينما كنت في طريقي، تصدت لي الممرضة و«نشبت بحلقي» تريدني أن أدفع ثمن الفاتورة، فنفضت يدي منها قبل أن أخرج وأغلق الباب ورائي في وجهها، قائلاً لها: اسألي طبيبك خفيف الظل والعقل معاً.