خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

لقاء وأي لقاء

قدم تلفزيون الـ«بي بي سي» قبل بضعة أيام قصة وثائقية عن رجل ولد في العراق، وألقت به الأقدار شر ما ألقت، حتى وجد نفسه في الأخير لاجئاً في بريطانيا. جاء من قرية صغيرة قرب البصرة؛ وكانت المنطقة التي تمردت على صدام حسين، وقامت بما سمي انتفاضة الجنوب. عاقبها صدام حسين، وضربها بقنابل النابالم المحرمة دولياً. أصابت فيمن أصابت هذا الصبي عامر بن كريم، وحولت وجهه إلى كومة من التجاعيد والتشوهات. يصرخ ويرفس ويسترحم، نقلوه إلى المستشفى حيث أجروا ما بوسعهم من عمليات ومعالجات، ثم ألقوا به في معسكرات اللاجئين. نتفة من أزبال الزمان.
سقط نظام صدام حسين، واحتل الإنجليز المنطقة. صبت الليدي إيما نيكلسون، العضو في مجلس اللوردات، اهتماماتها بما جرى ويجري في العراق. ذهبت إلى معسكرات اللاجئين، فلفت نظرها هذا الصبي عامر كريم. لفت نظرها بهذا الوجه المهشم الممزق. أشفقت عليه، وقررت أن تأتي به إلى بريطانيا ليصلحوا ما خربه الدهر من وجهه. فعلوا ذلك في سلسلة طويلة من العمليات. أدركت أن هذا الصبي لن يستطيع شق حياته في العراق، فقررت إبقاءه في بلد الإنجليز. نقلته إلى قرية صغيرة في ولاية ديفون في جنوب بريطانيا. دخل المدرسة، وتعلم اللغة الإنجليزية، ودخل في قائمة اللاجئين الإنسانيين. وقررت تلك القرية الديفونشية تبنيه كابن لها. وراح القوم يغدقون عليه كرمهم وعطفهم.
إنه الآن في الثلاثين من عمره. لم يعد يتذكر من لغته العربية غير نتف منها. ولكن الحليب الذي رضعه في البصرة ظل يحرك عواطفه. أخذ يشعر بالحنين لأهله وقريته. أجرت الليدي إيما نيكلسون ما يلزم من التحريات. سمعت عن امرأة تولول في كل مكان، وتئن لابنها الذي أخذه الإنجليز منها. أجرت نيكلسون ما يلزم من اختبارات بيولوجية أثبتت أن هذا الرجل في ولاية ديفون هو ابنها الشرعي. رتبت الـ«بي بي سي» سفرة له إلى البصرة، واقتادوه إلى بيتها المتواضع.
وهناك، أمام كاميرات الـ«بي بي سي»، التقى عامر كريم بأمه التي افتقدها عشرين عاماً. وكان العناق والقبل والدموع يغرق الطرفين: «يا ابني، يا عموري، حبيبي، خليني أشمك!». كان والده قد توفي، وتزوجت أمه برجل آخر. أخذوه إلى النجف حيث زار قبر والده في وادي السلام (أكبر مقبرة في العالم!) وترحم عليه.
ولكن كريم هذا قد أدرك البون الذي أصبح يفصله عن أسرته وقريتها العراقية. عاد إلى إنجلترا واستأنف الحياة التي عاشها هذه السنين الطوال بين عطف القرية الديفونشية التي تبنته وعون السيدة الإنجليزية التي رعته وأنقذته من مخيمات اللاجئين في العراق.
يذكرني هذا الفيلم الوثائقي بالصورة الوثائقية التي هزت العالم في أثناء حرب فيتنام؛ صورة الصبية الطفلة التي تركض نحو الكاميرا عارية وقد أحرقتها وأحرقت ثيابها قنبلة نابالم وهي تصرخ مستنجدة بالعالم.