فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

قمم ضرورية لاستدراك عظائم الأمور

الحرب أولها كلام. بهذه العبارة أوجز الأقدمون التحديد للصراعات التي تبدأ كلاماً في معظمه منقوص التبصر بمضمون مفرداته، وتنتهي اقتتالاً وحروباً صغرى تؤسس لحروب كبرى.
ومنذ بضعة أشهر نعيش جولات متبادلة من الكلام الأشبه بالقذائف، بين رئيس الولايات المتحدة الذي بات قاموسه حافلاً بتعليقات ذات مدلول تحذيري، وبعض رموز الحُكْم في إيران. وحيث إن «الحرس الثوري» هو الطريدة التي من أجْل وضْع حد للإقلاق الناشئ عنها، أرسل الرئيس ترمب درة السلاح البحري الأميركي الأكثر شأناً إلى المياه العربية، عسى ولعل يقرأ أهل النظام الإيراني معنى هذا الإرسال ومقاصده، فإن جنرال «الحرس» حسين سلامي، صوَّب مهدداً على الحاملة الأميركية «أبراهام لنكولن» وما عليها من صواريخ وطائرات، يكفي القليل منها في حال بات القول الترمبي فعلاً، لجعْل «الحرس» ومراكز أُخرى في الجمهورية الإسلامية عصفاً شبه مأكول.
هذه الاستهانة من جانب جنرالات «الحرس الثوري» بالقدرات الحربية الأميركية، هي رد فعل على العقاب الشديد الذي أنزله الرئيس ترمب على «الحرس الثوري»، وتحميله وزر الإيذاءات لكثير من الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وبعض دول العالم. لكن الإفراط في الثقة بالنفس وصل إلى درجة قول كبير الجنرالات ما معناه أنه بصواريخ «الحرس» المتطورة سيُلحق أشد الأذى بالآتين بحراً لإخضاع الشأن الإيراني، وإلى درجة أن أميركا ترمب ستتساقط كما سقوط برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وكأنه بذلك يلمح إلى أن «حرس الثورة الإيرانية» هم من خططوا ودربوا ومولوا عملية 11 سبتمبر (أيلول). وكأننا بهذا الفوران الثوري أمام نوع من مخاطبة الرأي العام في إيران، بأمل ألا يصاب بالإحباط في أعلى درجاته، من الآتي من جانب الوجود البحري الحربي الأميركي في مياه المنطقة. وفي حال حدوث الإحباط، فإن ثقة الشعب بقيادته تصبح رخوة.
القول بأن حرب الخليج الثالثة واردة الحدوث، يتجاوز تصريحاً إثر تصريح مسألة الاحتمال، وخصوصاً أن الإجراءات الوقائية تزداد وتتنوع، وباتت عربية، فلا تقتصر على الكويت التي حذَّر رئيس برلمانها يوم الخميس 16 مايو (أيار) 2019 من حدوث الحرب، في حال أن أهل الحُكْم في إيران لم يقرأوا جيداً مضامين عبارات ونوايا أميركية، ومستمرون في إدراج ما اتخذتْه إدارة الرئيس ترمب من إجراءات في بند الحرب النفسية. وهم في قراءتهم هذه كانوا مثل الرئيس صدَّام حسين، الذي قرأ المواقف بما يراه ويرتاح إليه، وليس بما هو واقع الحال، فكان الذي أصاب العراق الدولة والشعب. كما أن حدوث حرب الخليج الثالثة وارد، إذا لم يتقدم منطق أهل الحكمة والحنكة داخل النظام الثوري، وهم قلة في أي حال، على منطق «الحرسيين»، الذين اعتبروا في إحدى استهاناتهم الطاووسية أن حاملة الطائرات الأميركية الرابضة والمتربعة إلى حين، ستتحول بمن فيها إلى لحوم بفعل صواريخهم. واعتماد الحكمة والحنكة والحِلم والتشاور واجب على المسؤول الإيراني، بدءاً بمن هم في قمة السلطة والشأن، وذلك على أساس أنهم صنَّفوا إيران «الجمهورية الإسلامية»، وهذا التصنيف يوجب الأخذ بما في الكتاب من آيات، وبما يقوله الرسول والصحابة من خير الكلام. أليست الآية: «ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادِلهم بالتي هي أحسن» هي خير تنبيه من أجْل التبصر والتفهم والتخلي عن هذا المنطق الاستعلائي؟ وأليست أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم – وبالذات: «الحكمة ضالة المؤمن، فكل كلمة وعظَتْك وزجرَتْك ودعتْك أو نهتْك عن قبيح، فهي حكمة وحُكْم» خير علاج، ومعها كثير من أقوال الأخيار، ومنهم قول الإمام علي: «الحِلْم غطاء ساتر، والعقل حُسام باتر، فاسْتُر خُلُقك بحِلْمِك، وقاتل هواك بعقلك» وقول جعفر الصادق: «أَحْلَمُكم عند الغضب أَقْربُكم إلى الله».
لقد ضاعت فرص كثيرة من أجْل أن تستقيم الأمور بالحوار، الذي طالما أرادته ودعت إليه المملكة العربية السعودية، وبحيث يعيد أهل الحُكْم الإيراني النظر في مشروع التدخل في شؤون الآخرين، وأن يستبدلوا بهذا المشروع آخر تنموي المقاصد، وعلاقات جوار مستقرة، وتعاوناً لمصلحة الشعبيْن والأمتيْن. وهم لو فعلوا ذلك، أي بما معناه: وضعوا برسم التنفيذ برامج لتوظيف الثروة في خطط تطوير، تجعل إيران خلال ربع قرن دولة متطورة قريبة الشبه من البرازيل أو كوريا الجنوبية، بدل الانشغال في المشروعات الحربية، والتركيز على صنْع الصواريخ، وكذلك الإصرار على إنتاج قنبلة نووية، لما وجدت نفسها عرضة للتهديدات وللعزلة، ولباتت مع الوقت دولة مثل اليابان، ما دامت هنالك وفرة في الكفاءات العلمية، ولكانت الأطياف الإيرانية المنتشرة في كثير من دول العالم بدأت هجرة معاكسة من الشتات إلى أرض الوطن. لذا، من الطبيعي نتيجة إغراق النفس في أحلام العظمة وكوابيس الثأر من المساندة الخليجية للعراق الصدَّامي في الحرب، ألا ينهج الحُكْم الثوري النهج التنموي، أو أنه أرجأ ذلك إلى ما بعد اكتمال النهج الحربي، تصنيعاً للسلاح والصواريخ وامتلاك النووي. وهكذا أصبح ليس بين يديه سوى ورقة السلاح، يلوح بها من دون أن يأخذ في الاعتبار أن هذا السلاح مآله الخسران أمام السلاح الأكثر تطوراً، وربما قد ينتهي مصير الترسانة الصاروخية الإيرانية كما مصير الترسانة العراقية، التي وجد العراق الصدَّامي نفسه يدمرها مكرهاً، تنفيذاً لإملاءات أممية – أميركية.
وما نريد قوله، هو أن الأخذ بالتنمية نهجاً ومشروعات وفق خطط خمسية وعشرية، كان سيردع طوعاً إيران عن التحرش بهذه الدولة الجارة أو تلك البعيدة، وصولاً إلى الدول الأبعد، وإحلال سياسة الود محل الجنوح نحو أحلام الهيمنة.
قد يكون أولو الأمر في إيران يرون أن ما سينتهي إليه الحال مع الإدارة الأميركية، سيكون على نحو ما يحدث بين الرئيس ترمب والزعيم الأوحد لكوريا الشمالية، أي مجرد تهديدات وإنذارات لا تلبث أن تتحول إلى زيارات في بلد ثالث؛ خصوصاً أن أوجه الشبه للوضع متقاربة؛ حيث شأن السلاح والحُلم النووي أخذ فرصه بالكامل على حساب الشأن التنموي. لكن مثل هذا الأمر ليس دقيقاً تماماً؛ ذلك أن مصالح أميركا في المنطقة العربية وجوارها لم تعد تتحمل التحرش الإيراني الذي وصل إلى حد الإيذاء، على نحو ما حصل للعملية التخريبية للسفن الأربع التجارية في ميناء الفجيرة، يوم الأحد 12 مايو 2019، وما يحصل من إيذاء متعمد للمملكة العربية السعودية من الجانب الإيراني بيد حوثية. وعندما يعتمد الملك سلمان وسط ضجيج التحذيرات الأميركية – الإيرانية المتبادَلة، صيغة التشاور الخليجي والعربي والإسلامي، وذلك بقمم إحداها تنعقد في مكة المكرمة، وللمرة الأولى يحدث ذلك في تاريخ المنطقة، فإنه بذلك يضع دول الأمتيْن في وقت واحد، وفي رحاب المدينة المقدسة، أمام مسؤولية تاريخية تتطلب موقفاً يستدرك عظائم الأمور، ويغلب فيه التكاتف على تنوع الرؤى. وبذلك لا يعود الرهان الإيراني على بعض الثغرات في الموقف الخليجي - العربي - الإسلامي مكسباً لإيران.
ومع اختلاف الظروف والدواعي، فإن المرء يأمل أن تكون القمم الثلاث أكثر تماسكاً من تجربة القمة العربية التي انعقدت في مقر الأمانة العامة للجامعة العربية في القاهرة، يومي 9 و10 أغسطس (آب) 1990، بدعوة عاجلة من الرئيس حسني مبارك.
ونقول ذلك على أساس أنه بالنسبة إلى القمة العربية بعد القمة الخليجية التشاورية، هنالك أوضاع كثيرة تبدلت، بحيث إن دول الضد والامتناع عن التصويت على البيان الختامي، والقرارات التي أرادها الراحلان الملك فهد بن عبد العزيز وأمير الكويت الشيخ جابر الأحمد من قمة حسني مبارك، باتت غيرها قبل 29 سنة. ومن هذه الدول اليمن الذي تحفَّظ رئيسه علي عبد الله صالح وقتها، بينما الآن رئيسه عبد ربه منصور هادي، الذي تخوض المملكة حراكاً سياسياً وعسكرياً من أجْل استعادة بلده استقراره المُصادَر من الحوثيين المدعومين من إيران. وليس السودان ودولة فلسطين وموريتانيا في وارد التحفظ، كما في تلك القمة، كون هذه الدول باتت مع ما تراه المملكة. كما أن تونس التي تغيبت عن تلك القمة هي الأُخرى تؤازر الموقف السعودي. وحتى ليبيا التي عارضت ماضياً باتت هي أيضاً منسجمة مع الموقف السعودي. ويبقى العراق الذي عارض بطبيعة الحال سابقاً، وقد يتخذ رغم تعقيدات موقفه وقفة وسطية أقرب إلى الموقف الوقائي. ويبقى الطرفان الممتنعان عن التصويت زمنذاك، وهما الأردن والجزائر، وقد باتا أكثر اقتراباً ووقوفاً مع السعودية في حال طرْحها رؤية جديدة للموضوع الإيراني. لعل عُمان وقطر تحذوان حذو الدول الأُخرى في الانسجام مع وقفة يتم اتخاذها حصيلة القمم الثلاث، فإما تأييد خيار ترمب، وإما إقناع إيران بأن إسلاميتها توجب عليها اعتبار القمم الثلاث فرصة لاستعجال النظر في عشرين سنة من التغريد خارج المنطق وأصول الجيرة، وبذلك تدرأ مخاطر تصيبها، ولن يكون في استطاعة الدول العربية والإسلامية منْع استهدافها بضربة يتطلع الرئيس ترمب أن تكون كما سابقاً ضربة بوش الأب، ثم ضربة بوش الابن للعراق... إنما برضا دول المنطقة. وبالتالي يكون تصنيف ضربة ترمب أنها من أجْل دفْع مخاطر تستهدف الجميع، وليست مجرد اعتداء من الدولة العظمى على إيران، التي ترى نفسها أنها أعظم. هَدى الله ولاة الأمر فيها وأعان شعبها.