سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

صراع «هواوي» و«غوغل»

في الوقت الذي بلغت فيه الحرب التجارية بين العملاقين أوجها، وأعلنت أميركا إدراج شركة «هواوي»، فخر الصناعة الصينية، على القائمة السوداء، وامتثلت شركة «غوغل» بسحب رخصة أندرويد منها، وما يعنيه هذا من خسائر وشلل لمنتجاتها، كان الرئيس الصيني شي جينبينغ في بكين، يجمع حوله قادة دول ومعهم ألفا مسؤول حكومي وممثلون عن دوائر مختلفة، أَتَوْه من 47 دولة آسيوية وأخرى خارجها، في مؤتمر ضخم عنوانه «الحوار بين الحضارات الآسيوية».
المؤتمر من الضخامة بحيث غطاه أكثر من 2800 صحافي، واشتغل لإنجاحه 3700 متطوع، واحتاج التحضير له إلى أربع سنوات كاملة، نشطت خلالها جامعات ووسائل إعلام ومرافق سياحية وفنانون ومفكرون وأكاديميون، كلٌّ في ميدانه. لم يترك الصينيون حقلاً ثقافياً إلا ودعوا أهله من سكان آسيا. وإن كان التعليم هو العنوان الأساس، فقد نظموا إلى جانبه ورشاً، وأنشطة لم توفر الطبخ ولا الغناء أو الرقص والموسيقى والترجمة، والسياحة والسينما. الهدف المعلن هو تعزيز التبادل والتعارف بين حضارات الشرق الغنية والمختلفة، من أجل السير قدماً ومعاً. ذكّر الرئيس شي ضيوفه في أثناء خطاب طويل له، بأنهم كتلة وازنة، يُحسب لهم ألف حساب، لو اتَّحدوا. قال لهم «إن آسيا تشغل ثلث مساحة الأرض، وتضم ثلثي سكان العالم، وتتألف من 47 دولة وأكثر من ألف مجموعة عرقية. وقد حقق الآسيويون إنجازات ثقافية لا تصدَّق على مدى آلاف السنين الماضية». فما الذي ينقصهم اليوم؟
لكنّ شي كان يضرب بكلمته المدروسة بدقة، أكثر من عصفور واحد بحجر. كان يستميل أهل قارته ويستنهضهم من ناحية، لكنه يغمز، في الوقت نفسه، من قناة أميركا، التي تشن عليه حرباً شعواء، حين قال: «ليس هناك صراع حضارات... الاعتقاد بأن عِرقاً وثقافة لطرف ما، هما أسمى من غيرهما، والإصرار على تغيير أو حتى استبدال حضارات أخرى، هو أمر تافه في مفهومه وكارثي في ممارسته». الكلام يأتي بعد أن قال مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية إن الصين هي «أول قوة كبرى منافسة للولايات المتحدة ليست قوقازية»، معتبراً أن الخلاف بين البلدين له خلفيات عرقية.
مَن يعرف الصين لا بد يستطيع أن يتوقع أنها فكّرت بالضرورة مسبقاً في أنها قد تواجه محاربة أميركية طاحنة، في أندرويد وغيره من البرامج والتطبيقات المستوردة التي تعتمدها، وهي ليست غريبة عنها، لأنها شريكة في تطويرها. لذلك أسرعت شركة «هواوي» إلى طمأنة مقتني أجهزتها بأنْ لا خوف عليهم، وتحديثاتهم ستؤمَّن لهم، وكذلك خدمة ما بعد البيع، على الأقل فيما يتعلق بما تم بيعه وما وُزِّع في الأسواق. ولا بد أن خطة بديلة موضوعة سلفاً لمعالجة ما سيأتي. لكن الضربة التكنولوجية التالية لم تتأخر، ونُشر أن شركات صناعة الرقائق الإلكترونية الأميركية (إنتل، وكوالكوم، وبرودكوم، وسيلينكس) التي تستخدمها «هواوي» أخبرت موظفيها بأنها ستتوقف عن تزويد الشركة الصينية بشحناتها، ومثلها فعلت شركتان ألمانيتان، مما يعني أن أوروبا ستكون مجبرة، عاجلاً أم آجلاً، على اللحاق، تحت الضغط، بالأخ الأكبر. لكن الرد لم ينتظر هذه المرة أيضاً، وقيل إن الصينيين خزّنوا من الرقائق، تحسباً، ما يكفيهم فترة يتدبرون خلالها أمرهم.
ثمة وراء هذا عقيدة لا تتزعزع، فالصينيون يعتبرون أنهم أهل حضارة تمتد آلاف السنين، قامت في الأصل وانتعشت على مهارتهم في التواصل وتسييرهم للقوافل، ولا يرون في جهاز «هواوي» وشقيقه «هونر» وغيرهما، سوى تحديث لوسائلهم القديمة التي ما انفكّوا يطوّرونها. ذريعة ثقافية أو حيلة ثعلبية. فالصين تطرح نفسها كمحور في آسيا، وصاحبة قيادة ومبادرة ستسير خلفها قارة، لا لتقفز فوق الهند فقط بل لتستخدم جيرانها منصة تعطيها دفعاً لمشروعها الأكبر: «طريق الحرير». وقد استبدل الطريق اسمه ليصبح «مبادرة الحزام والطريق» وعُقد لأجله منتدى كبير قبل ما يقارب الشهر، في إصرار على أن الصين هدفها الأصل هو تعزيز الحوار وبناء الجسور بين الحضارات واحترام الاختلاف.
عناوين براقة ومغرية، لكنها تدر الخيرات التي بدأت تتدفق على التنين الأصفر من كل مكان. فقد وقّعت الصين منذ إطلاق مشروع «طريق الحرير» عام 2013 إلى اليوم 174 وثيقة تعاون مع 126 دولة و29 منظمة واستثمرت في 57 بلداً. وبلغ حجم التبادل التجاري، خلال عشرة أشهر، مع الدول العربية وحدها عام 2018 إلى اليوم ما قدره 197 مليار دولار، بزيادة ستة مليارات عن العام الذي سبقه.
الحرب طاحنة، وستكون طويلة ومريرة بين العملاقين. أميركا تحاول أن تحتوي أوروبا بالكامل وتضعها تحت جناحيها، فيما الصين تخطط، على المدى المتوسط، للقبض على العالم انطلاقاً من حب آسيا وبملمس من حرير.