دانيال موس- ديفيد فيكلينغ
TT

صدمة أستراليا السياسية وأصداء من أوهايو إلى لندن

دائماً ما يروق لأستراليا التفكير في أن نظامها الانتخابي محصن ضد نمط النتائج الصادمة الذي تكرر في بلدان أخرى خلال السنوات الأخيرة.
في أستراليا، يعتبر التصويت إجبارياً، وبالتالي لن تكون هناك مفاجآت على صعيد أعداد الناخبين المشاركين في التصويت. كما يتطلب النظام الانتخابي الأسترالي من الناخبين اختيار عدة مرشحين، ما يعني أن حملات التمرد الانتخابية التي يقودها عادة الحزب الثالث بالبلاد لن تلقى رواجاً يذكر في أستراليا، وذلك لأن الأفراد بمقدورهم التعبير عن اعتراضهم عن طريق التصويت، وفي الوقت ذاته يختارون مرشحاً من التيار الرئيسي.
وبينما وقع اختيار قرابة ربع الناخبين على مرشح من حزب أقلية كاختيار أول لهم خلال الانتخابات التي عقدت السبت، فإن نحو 90 في المائة من الناخبين إما اختاروا الائتلاف الحاكم بقيادة رئيس الوزراء سكوت موريسون، أو حزب العمال المعارض في الخانتين الأولى أو الثانية. وعليه، سيشكل الائتلاف وحزب العمال جميع مقاعد مجلس النواب البالغ إجمالي عددها151 مقعداً فيما عدا ستة أو سبعة مقاعد. ويبدو في حكم المؤكد أن الحكومة ستفتقر إلى أغلبية مسيطرة داخل مجلس النواب، لكن الصفقات السياسية التي سيتعين عليها إبرامها ستكون مع حفنة من السياسيين المستقلين المنتمين لتيار الوسط وأحزاب الأقلية صاحبة المقعد الواحد بالمجلس، بدلاً من التيارات الشعبوية القوية الموجودة على هامش المشهد السياسي.
ومع هذا، تظل نتائج الانتخابات الأسترالية بمثابة صدمة سياسية لم يتوقعها الكثيرون، تشبه انتخاب دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016. أو فوز معسكر الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في استفتاء «بريكست» داخل المملكة المتحدة في وقت سابق من العام.
جدير بالذكر أنه مرت قرابة 18 شهراً منذ إظهار أي استطلاع رأي إمكانية فوز الائتلاف الليبرالي - الوطني الذي يقوده موريسون. وأظهر استطلاع أجرته مؤسسة «نيوزبول» - وهي المؤسسة التي تحظى استطلاعاتها بالاهتمام الأكبر، والتي كانت نتائج استطلاعاتها السلبية مبرراً في عدد من الانقلابات الداخلية التي شهدها الحزب وأطاحت بخليفتي موريسون؛ توي أبوت ومالكولم تيربول في السنوات الأخيرة - تراجع الائتلاف في 56 استطلاعاً للرأي على التوالي منذ عام 2016. ووضعت نتيجة استطلاع أجرته مؤسسة «ناين إنترتينمنت كو» الإخبارية، مساء السبت الماضي، حزب العمال في المقدمة بنسبة أصوات تتراوح بين 52 في المائة و48 في المائة.
وحتى الاستطلاعات التي أجراها الحزب نفسه (والتي ينبغي التعامل معها بوجه عام كرسالة تحذير) لا يبدو أنها كانت بمعزل عن الأخطاء. وكشفت نتائج استطلاعات رأي ليبرالية مسربة وقوع خسائر كبيرة تصل إلى 11 مقعداً في ولاية فيكتوريا بجنوب شرقي البلاد.
ومع هذا، ومع أن النتيجة جاءت مفاجئة، فإنه لا يمكن اعتبارها ثورة. لقد فاز الائتلاف بمقاعد وفاق أداؤه معظم التوقعات، لكن بسبب الانتخابات الجانبية وإعادة ترسيم الدوائر الانتخابية انتهى به الحال بالفوز في عدد دوائر أقل عما حدث بعد الانتخابات الأخيرة عام 2016. وبالتأكيد ستحمل مهمة حكم البلاد من جانب أقلية تحديات كبيرة.
وتلك هي الحال بخصوص السياسات المعنية بالمناخ، التي وضعت نهاية مسيرة ثلاثة رؤساء وزراء أستراليين خلال العقد الماضي. ويبدو في حكم المؤكد أن الائتلاف سيعتمد على ثلاثة من أحزاب الأقلية الستة ومرشحين مستقلين من أجل بناء أغلبية. وقد نظم خمسة من هذه المجموعة حملات قوية من أجل تعزيز الجهود الرامية لمكافحة التغييرات المناخية من المعتقد أنها ستثير سخط كثير من الناخبين الأساسيين الموالين للحكومة. بالتأكيد سد الفجوة لن يكون بالأمر الهين.
وليس هناك سبب يدعو حزب العمال للشعور بالارتياح. من بين أكبر المناطق التي شهدت تحول الناخبين بعيداً عنه تلك التي يجري بها التعدين عن الفحم في شمال كوينزلاند وشمال سيدني، والتي ستخسر وظائف مع إغلاق المولدات المحلية وتراجع الصادرات خلال الفترات المقبلة للبرلمان. ويحمل ذلك مخاطرة خلق حزام من الناخبين الساخطين المنتمين للطبقة العاملة الذين اضطلعوا بدور مشابه في الغرب الأوسط الأميركي في انتخابات عام 2016.
اللافت أن نتائج الانتخابات تعكس أن ما كان يجري في الولايات المتحدة هو صدع متنامٍ بين المدن الكبرى، التي تميل بصورة متزايدة تجاه الليبرالية، والمناطق الإقليمية الأكثر تحفظاً.
ورغم بعض الادعاءات التي تقول إن الائتلاف فاز بالاعتماد على الناخبين الأثرياء المتقدمين في العمر، الذين نفروا من تعهد حزب العمال بزيادة الضرائب على الأسهم والممتلكات الاستثمارية، فإن بعض أكبر التحولات في صفوف الناخبين باتجاه الائتلاف حدثت في صفوف الضواحي المنتمية للشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة التي تضم بعض أصغر الشرائح الديموغرافية سناً على مستوى البلاد.
وبذلك يتضح أن الخرائط التقليدية التي تقسم بين المناطق الحضرية والريفية والتي بنت عليها الأحزاب الأسترالية الكبرى أغلبيتها تنقلب اليوم رأساً على عقب. ومثلما حدث تماماً في تكساس وغرب لندن، فإن شرائح من يمين وسط المدن أصبح أكثر ليبرالية. ومثلما حدث في أوهايو وشمال شرقي إنجلترا، فإن المناطق الإقليمية المنتمية ليسار الوسط تتحرك نحو توجهات أكثر محافظة.
والحزب الأقدر على استغلال هذه التوجهات سيكون صاحب الكلمة الأولى في تحديد التوجه العام للمشهد السياسي خلال العقد المقبل، ليس في أستراليا وحسب، وإنما عبر العالم.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»