جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

قلب الهجوم وكلبه

في كرة القدم، تتركز مهمة قلب الهجوم في تسجيل الأهداف. وعادة ما يكون اللاعب المختار، لشغل ذلك المركز، متميزاً بمزايا كثيرة، مثل السرعة، والذكاء، والمراوغة، والقدرة على تسجيل الأهداف، من مختلف الزوايا. وكذلك الحال في البرامج الإذاعية الإخبارية في الإذاعات العالمية المعروفة، مثل هيئة الإذاعة البريطانية، فإنها، مثل فرق كرة القدم، لكل فريق إخباري قلب هجومه المميز، الذي يتولى إدارة المقابلات، مع السياسيين من ضيوف البرنامج.
هناك كثير جداً من المحطات الإذاعية المحلية، التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية، من غير خدمة الإذاعة العالمية، المعروفة للمستمعين العرب وغيرهم، خارج بريطانيا. ومن بين تلك المحطات المحلية، توجد واحدة مميزة تسمى «راديو 4». وهي معروفة، ولها جمهور كبير من المستمعين، لتخصصها في متابعة الشؤون السياسية. وهناك فريق كبير من المنتجين، والمراسلين، والمعلقين، والمحللين، تتلخص مهمتهم جميعا في تقديم مادة إخبارية مفيدة للمستمع، تتخللها أخبار، وتعليقات، وتحليلات، ومقابلات. ومثل فرق كرة القدم في الرياضة، يوجد كذلك في كل فريق إخباري مذيع أول، متخصص، تعهد إليه مهمة إجراء المقابلات مع السياسيين. الاختلاف بين قلب الهجوم في فريق كرة قدم، والمذيع المتصدر لإجراء المقابلات في محطة إذاعة «راديو 4» لا يختلف في المهام، وهي تسجيل الأهداف، بل في التسمية. إذ بدلاً من لقب قلب الهجوم، يطلق الفريق الإذاعي على مهاجمهم لقب «كلب الهجوم»!
وخلال العقود الثلاثة الأخيرة، التي عشتها في بريطانيا، كان السيد جون همفري، صاحب ذلك اللقب والمركز، بجدارة. فما إن تستيقظ من نومك صباحاً، وتضغط على زر التشغيل في جهاز مذياعك، وتضع المؤشر على المحطة، حتى يأتيك صوته عبر الأثير، وهو يجادل، ويحاور، ويسجل أهدافاً صعبة، في مرمى سياسيين، يتعوذ الشيطان من شدة كذبهم، ومراوغتهم، ومهارتهم في الهروب من الفخاخ المنصوبة لهم.
جاء وقت انتقلت فيه للسكنى بمدينة برايتون، لكن مقر عملي ظل في لندن. لذا، كنت أتنقل بالقطار من برايتون إلى لندن وبالعكس. تلك الرحلة اليومية، دامت قرابة سبع سنوات، وسببت لي كثيرا من الإرهاق. لكنها، في الوقت نفسه، أفادتني بأشياء كثيرة، وأمدتني بتجربة خصبة، وأتاحت لي فرصة أن أكون عضواً في قرية صغيرة، يلتقي أفرادها، يومياً، في مقصورة قطار، خلال مدة الرحلة، ثم يفترقون حتى اليوم التالي. ولأن أفراد قرية القطار، مثل مدارات خاصة، كل واحد منهم يدور في مجاله، وفي صمت بارد، تمكنت أنا، أيضاً، من مجاراتهم، وخلقت مداري الخاص. وكان «كلب الهجوم»، أقصد السيد جون همفري، مؤنسي في تلك الأيام، يصلني صوته، من خلال جهاز مذياع صغير، بسماعتين، أضع كل واحدة في أذن، وأصيخ السمع متابعاً، للبرنامج الصباحي، حتى يصل القطار إلى مقصده، في محطة قطارات «لندن - فكتوريا».
ما دعاني للحديث عن تلك الأيام، هو أنني اطلعت، مؤخراً، على تقرير نشرته صحيفة «صنداي تايمز»، يتعلق بقرب تقاعد السيد همفري عن العمل في البرنامج، وهاجس بحث أعضاء الفريق عن «كلب هجوم آخر»، لا يقل عنه شراسة، ودهاء، وقدرة على تسجيل أهداف صعبة، ضد خصوم لا يقلون صعوبة، حتى وإن تطلب الأمر عضّهم، إن أمكن، كما كان يفعل قلب هجوم فريق برشلونة، حالياً، لويز سواريز، ضد مدافعي فرق الخصوم.
ما يلفت الاهتمام في السيد همفري، خلال المقابلات، هو شدة ما يسببه لضيوفه من إزعاج بمقاطعتهم، وعدم إتاحة الفرصة لهم في الاسترسال في ردودهم على ما يقدم لهم من أسئلة. إنه مثل جيرمي باكسمان الذي لم تستطع «بي بي سي» أن تعوضه حتى الآن في إدارة الحوارات السياسية خلال نشرة العاشرة والنصف ليلا على «القناة الثانية»، بعد استقالته من العمل.
وفي هذا السياق، هناك حادثة مشهورة، سببت كثيراً من الألم للسيد همفري، خلال إجرائه مقابلة مع رئيس الوزراء الأسبق، ديفيد كاميرون. إذ ما إن بدأ همفري معه اللقاء، حتى علق كاميرون ساخراً: «جون، أرجو ألا تقاطع نفسك»!
الصحيفة قامت بإجراء تحقيق حول أكثر المذيعين، في المحطة، الذين يسببون إزعاجاً لضيوفهم، خلال المقابلات، بمقاطعتهم. وتبين أن السيد همفري بريء من التهمة الملصقة به. وأن هناك من المذيعين، من أعضاء الفريق، من هم أسوأ منه في مقاطعة ضيوفهم، بعد أن أبان التحقيق أن متوسط مقاطعة همفري لضيوفه هي مرة كل 51 ثانية تقريباً، وأن هناك مذيعين، من الجنسين، ممن يقاطعون ضيوفهم مرّة كل 28 ثانية.
تذكرتُ أني أثناء زيارتي الأخيرة لطرابلس، تابعت، ذات مساء، برنامجاً في أحد القنوات التلفزية الليبية، يتناول سبل الخروج من الأزمة التي تمر بها البلاد، منذ ثمانية أعوام. كان الضيف أستاذاً جامعياً متخصصاً في تدريس العلوم السياسية. وطوال مدة عرض البرنامج، كان الأستاذ الضيف جالساً، واجماً، على كرسي، مستمعاً. وما إن يفتح شفتيه للإجابة عن سؤال، ينطلق مقدم الحلقة مقاطعاً، ومسترسلاً. استغرقت المقابلة ساعة كاملة، ولا أبالغ إن قلت إن حظ الضيف منها، في الحديث، لم يتجاوز 15 دقيقة، واستأثر مقدم الحلقة بالوقت الباقي!