د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

التركيز المفقود!

كلما تشتت تركيزي بسبب إسهاب ممل ينتابني من مشهد مصور يتناقله الناس عبر الشاشات الصغيرة، تذكرت تلك الدراسة التي أجرتها جامعة لندن، على قبيلة نائية في أفريقيا التي أظهرت حجم التركيز المفقود الذي نعانيه بسبب الشواغل الإلكترونية المتزايدة من حولنا، فضلاً عن الثرثرة غير المبررة.
ببساطة، ذهب العلماء بمشكلتنا إلى قبيلة أفريقية حافظ أهلها على البقاء في الريف، وقبيلة أخرى انتقل أفرادها للعيش في مناطق حضرية، فأظهرت النتائج، ما «فاق توقعات» الباحثين؛ إذ تبين أن الجماعات الحضرية (القبيلة المتمدنة) أظهرت صعوبة في تركيز الانتباه في اختبارات متنوعة أعدت لهم، مقارنة بأفراد القبيلة التي حافظت على بقائها في الريف. وكان أحد الأسباب يعود إلى أن «الناس في المجتمعات الحضرية يتمتعون بمحفزات تنبيه أكثر، حيث يتحلون بإفراط من حيث استخدام البصر والأصوات»، وهو من الأسباب التي تشتت تركيزهم، بحسب تقرير نشرته «بي بي سي».
وهذا يعني أن ضريبة العيش في المدن بدأت تقتطع شيئاً فشيئاً من تركيزنا وانتباهنا. غير أن إذاعة بي بي سي العريقة، التي انطلقت عام 1922. وجدت حلاً قديماً لهذه المشكلة عندما أدركت أن فترة الانتباه attention span لدى الإنسان لا تتجاوز عشرين دقيقة. هذا ما فهمته من مراسلها المتألق د. محمد العجمي الذي قال إن ما يدفع تلك الإذاعة إلى التنويع، خلال العشرين دقيقة، هو معضلة الحفاظ على التركيز. ولذا فهي ما زالت تبثّ في غضون ربع ساعة: موجز نشرة الأخبار، وعناوينها، وتفاصيلها، ثم لقاء قصيراً، وخبراً منوعاً وفاصلاً إذاعياً وغيره، في فترة زمنية قصيرة في محاولة للحفاظ على أكبر قدر ممكن من تركيز المستمعين. وقد نجحت بالفعل. وسبق أن نشرت في مقالي دراسة في هذا الإطار تظهر أن تركيز الإنسان يتراوح بين 15 إلى 20 دقيقة.
وأتوقع أن هذه المدة قد تقلصت بصورة كبيرة بعد انتشار الملهيات على نحو غير مسبوق فصارت الفيديوهات، والمباريات، وألعاب الفيديو، وحسابات المشاهير، والبنوك، والأسواق، والكتب في جيب كل فرد منا، ينتظر بترقب أي ومضة تنبيه أو صوت يجنح بتفكيره وتركيزه نحو كل شيء سوى محدثه!
ولذا قالت العرب قبل عصر الملهيات الإلكترونية: خير الكلام ما قل ودل. فالناس لم تعد تستجمع قوى تركيزها أمام هذا المد الهائل من الشواغل.