يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

درس سريلانكا والندوي: هل يمكن القضاء على الإرهاب مع بقاء مرجعياته؟

شكلت التفجيرات الدامية في سريلانكا، تحولاً مفصلياً في انبعاث موجة جديدة من الإرهاب المنظم على أكثر من مستوى، بحيث يمكن اعتبارها حدثاً فارقاً على غرار الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وذلك لأسباب كثيرة يطول شرحها، أهمها في نظري أنها بيّنت لعالم اليوم المضطرب أنه لا يمكن أن يكون آمناً من دون الحرب على الإرهاب والتطرف ودون تحيّز وبمنظور جديد يختلف عن السائد والسابق الذي لا يلامس إلا طرف البركان الإرهابي المتمثل في العمليات والانتحاريين والدوافع الجزئية كالدين والسياسة والحالة الاقتصادية.
ما حدث في سريلانكا كشف لنا أولاً أنه لا يمكن التعامل مع الإرهاب بشكل منفصل عن منظومته وشبكته العالمية ومن يدعمها ويمولها من الدول والكيانات والأشخاص والخطابات وصولاً إلى الميديا المتفوقة والتكنولوجيا التي شكلت بديلاً للأجيال الجديدة للتجنيد والاستقطاب المباشر عبر الشبكات أو منصات الخطابات المتطرفة التقليدية في بعدها الديني. اليوم الفنون الإرهابية يتجاوز تأثيرها المحاضرات المتطرفة «الفن الجهادي وثقافة الجهاديين» للصديق توماس هيغهامر أحد أهم الأبحاث التي قرأت تأثير الرمزيات من الزي إلى الأفلام المعتمدة على الخيول وبريق السيوف والعمائم والرايات والكم الهائل من الأناشيد المترجمة لكل لغات العالم في تدعيم خطاب «داعش» الموغل في عصرنته وحداثيته، كما أن البعد التضحوي العدمي للانتحاريين اليوم يتفوق على الحالة المادية، فأبناء أحد أكبر أثرياء سريلانكا قاموا بتفجير أنفسهم لكي تنتصر الآيديولوجيا.
والأكيد أن محاولة حشر «الإرهاب» في العمليات وقصرها على الفاعلين دون تأمل الشبكة الهائلة المساندة له تمويلاً ودعماً وتأييداً وتنظيراً، ساهمت في ولادة أجيال من المتعاطفين الراغبين في خوض التجربة والإصرار عليها والدفاع عنها. المتنقلون من ضواحي أوروبا الفارهة إلى مناطق التوتر بعائلاتهم وأسرهم يكررون في كل اللقاءات الوثائقية أنهم لن يتخلوا عن أسلوب الحياة في «دولة الخلافة» حتى لو زالت. يتحدثون باللغات الحيّة العالمية دون أن يتحدثوا العربية، فالمحتوى العنفي والخطاب الإرهابي اليوم يترجم ويمنتج بكل لغات العالم وفق أعلى المعايير، وينجح إعلام تلك التنظيمات في تجاوز كل أطر الحجب التي لا تزال هشّة، بل استطاعوا اليوم برمجة تطبيقات كثيرة بديلة لأشهر المنصات، وإيجاد برامج تجاوز للحجر وتشفير للمعلومات هرباً من ملاحقة الأجهزة الأمنية، بينما يخفق الكثير من خبراء مكافحة الإرهاب ويراوحون مكانهم في الدوران في حلقة مفرغة من التفسيرات والتأويلات الدينية والسوسيولوجية والسياسية التي لا تعدو أن تكون في مجملها سوى نظريات مستعادة لا تقرأ الحدث الإرهابي في طوره ما بعد الحداثي على مستوى التجنيد والعسكرة المدعومة بتقصير المجتمع الدولي في ملف الإرهاب بدءاً من تعريفه إلى إيجاد قانون صارم في ملاحقة مرجعياته التي ترقد بطمأنينة في قطر وتركيا وبعض العواصم الأوروبية، بل أصبحت تلوّح بمقاضاة من يتهمها كما رأينا في آخر بيانات القرضاوي وهيئة علماء المسلمين التي باتت البوابة الخلفية لتصدير التطرف في المنطقة برعاية وتمويل قطري تركي لا يقف عند إنتاج الخطاب فحسب، بل يتجاوزه إلى التدخل المباشر كما رأينا في ليبيا التي يؤكد قادة «داعش» أنها بإزاء آسيا الجغرافيا الجديدة للتنظيم. في ليبيا تم القبض على عناصر تركية تقاتل قوات الجيش الوطني، وتجتهد قناة «الجزيرة» على تصوير ما يحدث في ليبيا على أنه حرب ضد الشرعية دون أن تتطرق لوضع التنظيمات المسلحة المفارقة لمنطق الدولة في ليبيا التي تسطو على البنوك والمقرات الاقتصادية بل وتضغط حتى حكومة السراج وتسيّرها إلى الحد الذي جعل من المفتي لـ«الإخوان» يدعو إلى مقاطعة السعودية وموسم الحج، مذكراً بالملفات ذاتها التي تنتعش موسمياً في قطر وتركيا لاستهداف استقرار الخليج والتشغيب على موقف دول الاعتدال في الموقف من التطرف والمقاطعة التي لم تكن مجرد قرار تعسفي كما تؤكده كل المؤشرات.
سلمان الندوي أحد الأمثلة الصارخة على ما يجب التأكيد عليه، بأنه لا يمكن القضاء على الإرهاب مع بقاء مرجعياته، فالداعية الهندي الذي تمتلئ كل خطاباته، وهي متلفزة وموجودة على الإنترنت، بالتطرف وصولاً إلى مبايعة أبو بكر البغدادي واعتباره خليفة للمسلمين في خطاب شهير له أرسله للبغدادي بقوله: «من سلمان الحسيني الندوي، سبط أبي الإمام أبي الحسن علي الندوي، أحد خدام الإسلام إلى أمير المؤمنين أمير الدولة الإسلامية في العراق والشام، السيد أبي بكر البغدادي الحسيني - حفظه الله تعالى - ونفع به الأمة، ورفع به راية الإسلام، فضيلة الشيخ القائد الإسلامي»!. بل اعتبر الندوي القرضاوي إماماً المسلمين ومرجعيتهم رغم إجازته للعمليات الانتحارية والتدخل السيادي الحربي ما بعد فشل صعود الإسلاميين في الربيع العربي الذي أفتى على الهواء باغتيال القذافي.
سلمان الندوي زعيم ما يعرف بندوة العلماء والمرجعية للمتطرفين في القارة الهندية وسريلانكا، لا يزال يلقى الدعم من قطر ويلقي محاضراته في الكليات العسكرية بقطر، ويحضر ندوات المقاومة كضيف رئيسي في تركيا، يهاجم بمناسبة وبغير مناسبة السعودية ويسيء إلى حكّامها صراحة، وينتصر لـ«داعش»، بل رفض دعم وزارة الشؤون الإسلامية في ولاية أوتار براديش الهندية رداً على تصنيف المملكة لـ«الإخوان» كجماعة إرهابية، وحين فشل الانقلاب التركي قام بتكفير جماعة غولن واعتبارها خائنة للإسلام. في صفحته الشخصية على مواقع التواصل الكثير من رسائل التطرف المشرعنة للإرهاب. في مشروع تدميري له قام الندوي بنشر مقترح بعث به للسعودية قبل قرار تصنيفها لـ«الإخوان» كمنظمة إرهابية جاء فيه: «أدعو حكام الجزيرة العربية إلى تكوين جيش إسلامي عالمي، وأتكفل بجلب 500 ألف متطوع من شبه القارة الهندية».
اللغط الحاصل اليوم من قبل القرضاوي وقطر وذيولهما المنتشرة على الإنترنت ليس إلا جزءاً من رأس جبل الجليد للتطرف ومرجعياته، علينا أن نتذكر جيداً ما قاله أسامة بن لادن زعيم «القاعدة» في مذكراته التي أفسحت عنها: «لم يرشدني أحد مثل (الإخوان)»، وبعد مقتله لم تتوان الجماعة في إعلان بيان رسمي في موقعها تستنكر ما حدث، وهو الأمر الذي وصفته مجلة «ذي أتلانتيك» في تحقيق لها بأنه يلقي الضوء على أسطورة اعتدال الجماعة في رؤية السياسة الغربية. وعلينا أن نتذكر أن أول مقابلة أجراها أبو محمد الجولاني في قناة متلفزة يشاهدها الملايين كانت في قناة «الجزيرة» في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2013 مع تيسير علوني! الإرهاب اليوم يتجاوز الشباب الذين يهجرون حياتهم ليقرروا الانتحار وبشكل مفاجئ وصادم لذويهم. الإرهاب منظومة تشمل المفجّر والمنتحر وأيضاً المنظّر والمبرّر.