جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

نحن ويد التاريخ

كنتُ في مدينة بلفاست، في زيارة لمتحف، متجولاً في صالة منه، مخصصة لعرض صور شخصيات سياسية، لعبت دوراً في ترسيخ اتفاق السلام بآيرلندا الشمالية. إحداها لفتت انتباهي. كانت بحجم كبير، ومؤطرة بإطار جميل، لشخصيتين من أكثر شخصيات الصراع تشدداً، وعدوانية، وإثارة للجدل. كانا يصعدان درجات رخامية في طريقهما إلى مقر الحكومة، لبدء مرحلة مشاركة السلطة في الإقليم، بعد توقيع اتفاقية السلام عام 1998.
كان القس إيان بيزلي زعيم الاتحاديين البروتستانت في المقدمة، صاعداً الدرجات، بقامته الطويلة، وانحناءة ظهره، تحت ثقل سنوات عمره الثمانين. وخلفه يجيء مارتن ماجينز، ممثل حزب «شين فين»، الكاثوليكي، والذي ترأس وقاد عمليات الجيش الجمهوري الآيرلندي طيلة سنوات الصراع، واضعاً يده اليمنى على ظهر غريمه، ثم شريكه في السلطة، كمن يحاول إسناده ومساعدته على الصعود. قال الموظف المسؤول الواقف بجانبي، وابتسامة تضيء وجهه: «إنها يد التاريخ»، مشيراً بأصبعه إلى يد مارتن ماجينز. التفتُ إليه، بملامح تعلوها دهشة، وبعينين مستغربتين، ثم التفتُ مجدداً نحو الصورة، محدقاً، ومدققاً في تفاصيل يد آدمية، وصفت مجازياً بيد التاريخ. قلت في نفسي: «من الذي قرر أن تكون يد مارتن ماجينز، على وجه التحديد، يداً لتاريخ سطوره تنضح دماً»؟
تلك اليدُ، تحديداً، وصاحبها، كانا، قبل توقيع الاتفاق، يقفان على الجهة المقابلة للقانون، ثم صارا، عقب الاتفاق، يمثلان القانون، والتاريخ معاًّ! أليس من المشروع للحيرة أن تهز طمأنينة عقولنا، وتثير ما شاءت من أسئلة؟
المتابعون للنقاش الدائر، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، في بريطانيا، حول «البريكست»، يعرفون أن طرفي الصراع (المطالبين بالخروج والرافضين) كثيراً ما يلجأون في حمى نقاشاتهم إلى الاستنجاد بالتاريخ، وكأن التاريخ خادم مطيع لكل طرف، وما عليهم إلا استدعاءه، وقت الحاجة، ليجيء مسرعاً، ملبياً نداءهم، وليكون سنداً وعوناً لهم على معارضيهم: على كتف أي من الطرفين يا تُرى سيضع التاريخ يده، فيما بعد؟
أذكر أني قرأتُ، مرّة، أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير قال إنه يشعر بأن يد التاريخ فوق كتفه! لم أعد أذكر إن كان ذلك التصريح قبل غزو العراق أو بعده!
الأمر نفسه يتكرر، في بلدان أخرى كثيرة، وعلى أنساق مختلفة، شكلياً، لكنها تتفق على أن تعريف التاريخ كمفهوم، وكمصطلح، زئبقي، وأنه في أمسّ الحاجة إلى شيء من مراجعة، وضبط، حتى لا يتحول بين أقدام السياسيين إلى كرة يتقاذفونها بأرجلهم، لإثبات مشروعيتهم، أو أحقية جدلهم على خصومهم ومعارضيهم، متى وكيفما شاءوا.
العقيد معمر القذافي، درس التاريخ، كطالب منتسب، بالجامعة الليبية، في بنغازي، قبل أن يقوم بانقلابه المشؤوم. وكان، دوماً، حريصاً في خطاباته وأحاديثه على الإشارة إلى التاريخ. وكان، دوماً، حريصاً على تأكيد أنه يقف في الجهة الصحيحة منه! القذافي لم يكن وحده في ذلك، لأن التفاتة قصيرة للخلف، باتجاه تاريخ الأمم والشعوب، تجعلنا ندرك أنه كان واحداً من طابور طويل جداً، من حكام مستبدين، حرقوا شعوبهم وأوطانهم، على أمل أن يضع التاريخ، يوماً ما، يده على أكتافهم!!
يقال إن وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر سأل رئيس الوزراء الصيني الأسبق شوان لاي عن رأيه في الثورة الفرنسية، فرد قائلاً بأن الوقت ما زال مبكراً للحكم عليها. الثورة الفرنسية قامت في عام 1789. ومع ذلك فإن شوان لاي ما زال في حاجة إلى وقت أكثر للوصول إلى رأي شخصي بشأنها. شوان لاي، نفسه، اختفى من المسرح السياسي والدنيا: هل هذا يعني أن التاريخ سينتظر ألفية أخرى لكي يصل إلى قرار بوضع يده على كتفه أم سيتجاهله كلية؟
يبدو لي أن الفيلسوف الألماني هيغل أكثر قرباً، من غيره، إلى الصواب حين قال: «التاريخ لا يعلمنا شيئاً».
في ليبيا، التي تحولت أرضها إلى ميدان لحرب طاحنة، منذ ثماني سنوات، لم يلجأ أي من أطرافها، على حد علمي، للاستشهاد بالتاريخ، أو بادعاء وقوفه على الجهة الصحيحة منه، ذلك لأن أصوات البنادق والقذائف لم تترك فرصة، حتى الآن، للشروع في بدء حوار، ربما يفتح، بحياء وخجل، ولو باباً واحداً، مهما كان صغر حجمه، ليمر منه التاريخ، وليدخل القاعة لكي يضع يده المصونة على المتحاورين. لكن ليبيا أهلكتها وأفسدت أي صلح فيها كثرة الميليشيات وتعدد ولاءاتها.
سؤال آخر وليس أخيراً:
على أي جهة يا تُرى، من التهاب نيران حريق كاتدرائية نوتردام، في باريس، سيضع التاريخ يده، من دون أن تحترق؟