د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

بوتفليقة والخروج الآمن

استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، التي كانت بين التثمين والرفض، وضعت حداً للتكهنات حول استمرار حكم الرئيس، وسجال تفعيل المادة 102 حول ثبوت حالة الشّغور النّهائي لرئاسة الجمهوريّة.
بوتفليقة اختار الوطن على السياسة، هكذا يمكن قراءة استقالته، فترجل عندما عرف أن بلاده ستدخل النفق المظلم، وسيكون هو شريكاً في هذه الحقبة التي تُكتب الآن للجزائر بحبر تنظيم «الإخوان» وغيرهم، ممن يدفعون الجزائر نحو الفوضى، وهذا ما ظهر في كلام القيادي بحزب «العدالة والتنمية» لخضر بن خلاف الذي قال إن «استقالة الرئيس ثمرة أولى من ثمرات الهبّة الشعبية» في تكرار لنفس التعبيرات التي يستخدمها التنظيم الضال، للسطو وتسلق ظهور أي حراك شعبي، يوجهه في مسار الفوضى فيما بعد كما فعلها في ثورات ما سمّي «الربيع العربي».
الرئيس بوتفليقة واجه التلويح من قبل قائد الجيش بتفعيل المادة 102 من الدستور الجزائري، والتي تنص على أنه «إذا استحال على رئيس الجمهوريّة أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدّستوري وجوباً، وبعد أن يتثبّت من حقيقة هذا المانع بكلّ الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التصريح بثبوت المانع...».
ولكن الرئيس بوتفليقة قبل نهاية ولايته الدستورية بأسابيع معدودة قرر الاستقالة والخروج الآمن، وتجنب تفعيل المادة 102 بحق تاريخه السياسي الطويل بخطاب وداع لخّصه في القول: «اتخاذي هذا القرار إيماناً واحتساباً، هو الإسهام في تهدئة نفوس مواطنيّ وعقولهم، لكي يتأتى لهم الانتقال جماعياً بالجزائر إلى المستقبل الأفضل الذي يطمحون إليه طموحاً مشروعاً».
أخيراً ترجل الفارس عن فرسه، بعد تاريخ طويل حافل بالإنجازات الوطنية في بلاده، ومواقف عربية ودولية، جعلت منه سياسياً غير عادي، بل وكان نجم بوتفليقة يعلو ويبرق منذ توليه حقيبة الخارجية كأصغر وزير عربي في حينها، إلى قيادته خريطة الطريق من العشرية السوداء في بلاده.
والآن ماذا بعد الاستقالة التي كان يطلبها الشباب المتظاهر، في شوارع وميادين الجزائر؟ هل الجيش قادر على ضمان الحياد في عملية الانتقال الديمقراطي المنشود، خصوصاً في ظل تخوف مستمر من الجيش الذي يُتهم منذ زمن طويل بأنه الدولة العميقة في الجزائر، والحاكم الفعلي طيلة السنوات الماضية؟ طبعاً الحالة الجزائرية تختلف عن المصرية، إذ إن تدخل الجيش في الحالة المصرية جاء بناءً على أمر الشارع، حيث أنقذ الجيشُ البلادَ من الانزلاق نحو الفوضى، وأيضاً عن الحالة الليبية التي استعاد فيها الجيش، ولو متأخراً، زمام المبادرة في ليبيا.
استقالة بوتفليقة فتحت الأبواب أمام تكهنات بسيناريوهات متعددة تخيّم عليها سحابة الفوضى، والسجال بين دعوة الجيش لحماية الدستور ورفضها من قبل الحزب الاشتراكي، أقدم الأحزاب الجزائرية الذي اعتبرها بدعة، حيث قال عبد المالك بوشافة إن «أصل المعضلة الجزائرية هو الانقلاب الذي نفّذه عسكريون على شرعية الحكومة المؤقتة في عام 1962، أي بعد استقلال الجزائر مباشرةً عن فرنسا الاستعمارية»، في ظل اتهامات بأن الجيش يسعى إلى تكريس حكمه، وما مطالبة رئيس الأركان الفريق قايد صالح، بتفعيل المادة 102 من الدستور الجزائري، إلا من هذا الباب، وفق آراء بعض النخب السياسية، التي طالبت بأن يبقى الجيش في حدود مهمته الرئيسية وهي حماية البلاد والحدود، وعدم الانجرار وراء المواقف السياسية، وألا يكون طرفاً في معسكر سياسي، حتى لا يصبح جزءاً من المشكلة، وعليه - أي الجيش - أن يقف على مسافة واحدة من الجميع وفق الدستور الجزائري.
ولكن رغم جميع الآراء والتحليلات يبقى الجيش هو صمام الأمان، خصوصاً في محيط عربي وتغيرات إقليمية استُخدم فيها الإرهاب بصوره المتعددة، «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان»، كقاعدة خلفية لتدمير البلدان العربية، والجزائر ليست محصّنة من سيناريو الفوضى الخلاقة، المسماة زوراً «الربيع العربي». وحتى لا تعود الجزائر إلى العشرية السوداء لا يُنصح بالصدام مع الجيش ومحاولة إسقاطه، فالتجربة الليبية لا تزال درساً قاسياً لإسقاط جيش وطني، استغل شغورَه «داعش» وأخواته، ولو أن هذا مستبعَد، لأن «الأطلسي» لا يقوى على الضلوع في مثل هذه الحالة.
ولكن حذارِ من التنظيم الشرس، فهو يتأهب لاعتلاء السلطة بشراسة.