حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

«بعد آذار يأتي الربيع»

«لقد خسر مجدداً الذين يحاولون تركيع شعبنا عبر زعزعة وحدته وتضامنه». كان هذا التعليق الأولي للرئيس التركي إردوغان على نتائج الانتخابات البلدية التي أعطت حزبه تقدماً في الأرياف والمدن والبلدات الصغيرة، وأوحت أن تحالفه الإسلامي القومي يتجه للاحتفاظ ببلدية إسطنبول كبرى مدن تركيا التي يقودها «العدالة والتنمية» منذ عام 1994 دون انقطاع... لكن النتائج التي حملت خسارة تحالفه «ائتلاف الشعب» كل المدن الكبرى: إسطنبول، وأنقرة، وإزمير، وأنطاليا، وأضنة وسواها... وهو التحالف الذي يتشكل من «العدالة والتنمية» والحركة القومية ومجموعات إسلامية وحزبية يمينية عديدة، فرضت عليه الاعتراف بالتطور ليكتشف إردوغان أن «السبب الوحيد الذي حال دون حصولنا على النتائج المرجوة من الانتخابات هو عدم تقديم أنفسنا للشعب بشكلٍ كافٍ»!! فكيف يكون ذلك وهو يحتكر بين يديه كل السلطات وإمكانات الدولة فضلاً عن التعتيم الإعلامي على المعارضة وإلصاق التهم بها بعدما تمَّ زج مئات الصحافيين في السجون؟!
عادة تشهد الانتخابات المحلية في تركيا تنافساً محموماً لأنها مفتاح إدارة شؤون الناس في المدن والأقضية والنواحي، ومعروف أن فوز إردوغان شخصياً برئاسة بلدية إسطنبول عام 1994 مهّد له الطريق للفوز بالانتخابات البرلمانية في عام 2002. وشكل احتفاظه ببلدية إسطنبول على مدار أكثر من ربع قرن أكبر علامة على قوة شعبيته، مع تحول المدينة الأكبر لمعقل له. بهذا المعنى كان التوجه للانتخابات المحلية بوصفها المؤشر لما ستكون عليه الانتخابات البرلمانية، لأنها على الدوام كانت المقياس الأدق للوزن السياسي للأحزاب التركية، فأدوار البلديات واسعة كونها الجهة التي تمس الحاجات اليومية للناس من شؤون الإسكان إلى المواصلات والصحة والغذاء وغيرها.
واقعياً، اتجهت الانتخابات المحلية هذه المرة وفق ما رسمه لها إردوغان، إذ أرادها بمثابة الاستفتاء على شخصه ونهجه وسياساته وقراراته بعد التعديلات الدستورية التي أقرت بأغلبية بسيطة جداً وانطلق منها، وهو الحاكم المطلق لتغيير وجه تركيا - أتاتورك. رفعَ شعارات من نوع أن التصويت لحزبه وتحالفه يعني «بقاء تركيا»، ويعني إنقاذ تركيا من «خطر وجودي»، وأن التصويت لفريقه هو الرد على مؤامرة دولية تستهدف الليرة والاقتصاد التركي، وأن الخارج سبب الاختناق الاقتصادي، ولم يكن معنياً بالتوضيح أو الشرح، فهو لجأ لكل المفردات التي من معانيها أن تركيا ليست أمام مجرد انتخابات محلية، ملقياً بثقله في السباق ومطلقاً الوعود بتخطي الأزمة الاقتصادية التي تعصف بتركيا.
«ائتلاف الأمة» بقيادة حزب الشعب الجمهوري العلماني ومعه حزب «إيي» القومي والمدعوم من حزب «الشعوب الديمقراطية» الذي يحظى بتأييد واسع من القواعد الشعبية الكردية واليسارية، رفع شعاراً لافتاً: «بعد آذار يأتي الربيع»، وذهب هذا الائتلاف لخوض المحليات من موقع رفض الحكم الفردي الذي يعيد تركيا إلى أجواء الديكتاتورية العسكرية التي سادت حقبة طويلة، ويغطي التراجع الاقتصادي والفساد الذي ينخر حكم إردوغان، وعادت إلى التداول مقولات بينها أن النجاحات التي تحققت في تركيا قبل فترة كانت ثمرة الإصلاحات التي أدخلتها حكومة تانسو تشيلر أواخر تسعينات القرن الماضي، وربطت الانهيار والفساد بقرارات وضعت المالية العامة للدولة بين يدي صهر الرئيس والمشاريع الكبرى بين يدي نجل الرئيس، وتم إبعاد كل القيادات الحزبية المعترضة التي تعرضت كذلك للتهديد.
ذهب المقترع التركي إلى صندوق الاقتراع وهو تحت وطأة خطاب أحادي من إردوغان وإعلامٍ موالٍ بنسبة تفوق الـ90 في المائة، ودعوات لاستئصال الأكراد وحسم الوضع في سوريا وفق مصالح أنقرة ومخاطبة غرائز المتطرفين الإسلاميين والقوميين بالتوسع في الشمال السوري... لكن هذا المقترع كان أيضاً تحت وطأة إجراءات التضييق على الحريات، وفقدان الوظائف وزيادة البطالة، وتركيب ملفات أمنية لعشرات ألوف المواطنين الذين أبعدوا من وظائفهم بتهم الصلة بمحاولة انقلاب عام 2016، فصدرت الأحكام بسجن أكثر من 60 ألفاً وينتظر نحو الـ70 ألفاً المحاكمات وكلها صورية، وتم إبعاد نحو 15 ألفاً من ضباط الجيش أكثر من نصفهم من ضباط سلاح الجو. وجرت الانتخابات تحت وطأة تأثير أزمة مالية - اقتصادية بدأت قبل نحو عامين وبلغت الذروة مع تغريدة الرئيس ترمب الصيف الماضي فانهارت الليرة وفقدت نحو 25 في المائة من قيمتها... وأيضاً تحت وطأة اللجوء السوري ومنح الجنسية لعشرات الألوف من «الإخوان المسلمين» السوريين وأنصارهم وانفضاح سياسات تحويل تركيا إلى الممر الآمن لكل الإرهابيين الذين لا يخفى ارتباطهم بأجهزة الأمن الرسمية، وصولاً لاستغلال فظ لمأساة نيوزيلندا والسعي لإسباغ صورة «بطل» المسلمين على الرئيس التركي، إلى إقفال الاتحاد الأوروبي الباب أمام تركيا وطي صفحة انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
لقد وضع التحالف المعارض الذي قاده حزب الشعب الجمهوري في رأس أهدافه الوصول إلى الوضع الذي يمكنه من تكريس مشهدٍ جديدٍ للسياسة التركية. مشهد بين أبرز دلالاته الشك في صحة التمثيل البرلماني الراهن؛ ذلك أن خروج المدن الكبرى من سيطرة حزب السلطة أمر له الكثير من الارتدادات السلبية على مجمل سياسات الحكومة التركية، التي ستصبح بمواجهة مزاج شعبي كبير مناوئ لها، وهذا المشهد سيفتح الأبواب أمام الكثير من الاحتمالات، ومن بينها احتمال الذهاب إلى انتخابات برلمانية مسبقة، خصوصاً أن القادة السابقين في حزب «العدالة والتنمية» أمثال الرئيس عبد الله غُل والوزير داود أوغلو ورفاقهما أعلنوا اعتزامهم تشكيل حزبهم السياسي بعد الانتخابات المحلية مباشرة. لذا يرتدي الشعار الذي رفعه معارضو إردوغان الأهمية القصوى: «بعد آذار يأتي الربيع».