الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

درس صعب في محاربة التعصب

هناك أحداث في الزمن تدخل التاريخ. وهناك أشخاص يسجلون أسماءهم ناصعة في دفاتر التاريخ لما تحدثه أعمالهم من تحول في الوعي البشري وفي سياسات الدول. من هذه الأحداث ذلك الهجوم الذي ارتكبه أحد المجرمين العنصريين على مسجدين في نيوزيلندا. ومن هؤلاء الأشخاص رئيسة حكومة تلك الدولة البعيدة المقيمة في الطرف الآخر من الكرة الأرضية.
لم يكن الاعتداء على المسجدين الأول من نوعه. فقد تعرضت مساجد أخرى في أنحاء مختلفة من العالم لمثل هذه الاعتداءات. وليس فقط في عواصم ومدن غربية. فالإرهاب، حسب المقولة التي صارت تتردد على ألسنة كثيرين، لا دين له. وبالتالي، لم تقصر تنظيمات إرهابية إسلامية، مثل «داعش» وسواه، في ارتكاب اعتداءات على مساجد وكنائس وأماكن عبادة أخرى.
غير أن الاعتداء في نيوزيلندا سوف يحتل مكانة خاصة، نظراً لأمرين؛ الإجراءات التي رافقته وتبعته، وخصوصاً الحملة التي تعرضت لها مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت منصة يستخدمها الإرهابيون لنشر أحقادهم، والتي انتهت بقرار المسؤولين عن «فيسبوك» منع المواد التي تؤيد أو تعبر عن مواقف العنصريين البيض. والأمر الثاني يتصل بالموقف الذي عبرت عنه رئيسة حكومة نيوزيلندا في تعاطيها مع الأزمة، وهو موقف قيادي استثنائي بكل المقاييس، لا أذكر أن مسؤولاً في بلد غربي اتخذ موقفاً مماثلاً له في حدته وتعاطفه ووضوحه، أمام اعتداء تعرض له مسلمون.
لهذا لم يبالغ إمام مسجد النور الشيخ جمال فودة، عندما وصف قيادة جاسيندا آردرن بأنها كانت درساً لقادة العالم. كأن الشيخ كان يتحدث باسم جميع العقلاء الذين ينظرون إلى العنصرية والاعتداء على الآخرين بسبب دينهم أو لونهم أو عرقهم على أنها تخالف القواعد المقبولة من السلوك البشري.
الوجه الآخر للمجرم الذي ارتكب الهجوم في نيوزيلندا يمثله المجرمون الذين حملوا رايات تنظيم «داعش» وراحوا يرتكبون جرائمهم ضد مسلمين وغير مسلمين، من عرب وأكراد وأجانب. فالحقد الطائفي له لون واحد، وينبع من مكان واحد. لذلك لم يكن مستغرباً أن تلجأ التنظيمات اليمينية المتطرفة في أوروبا إلى المواقع التي يستخدمها تنظيم «داعش» على منصات التواصل الاجتماعي، مثل «تويتر» و«فيسبوك»، لتنسخ عنها الطرق والوسائل التي تسهل لها ارتكاب جرائمها. كما جاءت الحملة التي شنتها رئيسة حكومة نيوزيلندا على التعصب الديني والسلوك الحضاري الذي مارسته، في الوقت الذي كان ذلك التنظيم الإرهابي يلفظ أنفاسه الأخيرة في الباغوز شرق الفرات. ومثلما لقي تصرف آردرن تعاطف كثيرين من العقلاء حول العالم واحترامهم، كانت ردود الفعل العربية والغربية مرحبة بانهيار «داعش» ونهايته، ترافقها دعوات لمحاربة الأفكار التي أنجبت هذا التنظيم كي لا يظهر من جديد، بدل الاكتفاء بالقضاء على قواعده وفلوله.
كان أسهل لجاسيندا آردرن أن تقوم بسلوك آخر. أن تفعل كما يفعل القادة الشعبويون الذين يفضلون الرهان على تعاطف الغرائز الدينية والقومية، يجيشونها ويستغلونها ويستخدمونها للفوز في صناديق الاقتراع. ومثل هؤلاء كثيرون في منطقتنا وفي مناطق ودول أخرى حول العالم. من وزير داخلية إيطاليا ماتيو سالفيني الذي كان يفضل غرق المهاجرين في البحر، بدلاً من فتح الأبواب أمامهم، إلى رئيس حكومة هنغاريا فيكتور أوربان الذي قام بتحصين حدوده بالأسلاك الشائكة ليمنع النساء والأطفال من الحصول على لقمة خبز أو كوب ماء. يضاف إلى هؤلاء بعض قادة اليمين الألماني المعتاشين إلى اليوم على الإرث النازي، والذين واجهتهم المستشارة أنغيلا ميركل بقرار كان بمثابة مغامرة سياسية، إذ سمحت بإدخال نحو مليون مهاجر إلى بلدها. وليس غريباً في مناخات نمو التيارات اليمينية والعنصرية في أوروبا أن يشهد الغرب الأوروبي والأميركي تصاعد موجات الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية، وارتفاع معدلات الجرائم والاعتداءات التي تحمل طابع الحقد الديني.
في بريطانيا مثلاً، ارتفع معدل الاعتداءات والتهديدات ضد المسلمين بنسبة 593 في المائة في الأسبوع التالي للهجوم على المسجدين في نيوزيلندا. وتراوحت هذه الاعتداءات التي وقعت في عدد من المدن البريطانية بين هجمات على مساجد كما حصل في برمنغهام، وتلويح باستخدام السلاح ضد مصلين في طريقهم إلى المساجد، وإهانات لفظية لسيدات يرتدين الحجاب. وكانت هذه النسبة قد ارتفعت أيضاً، وإنْ بدرجة أقل، في الفترة التي تلت تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016.
في مناخات التعصب الديني كان أسهل لجاسيندا آردرن أن تنبش أوراق التاريخ، وأن تفتح نيران الحقد. كان أسهل لها أن تفعل ما اختار أن يفعله الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي وجد معركة الانتخابات البلدية فرصة لاستغلال الهجوم على المسجدين وتغذية الصراعات الدينية. قال إردوغان إن اعتداء نيوزيلندا هو جزء من هجوم أكبر على تركيا وعلى الإسلام، وراح يهدد ذلك البلد بأنه سيكون مستعداً للاقتصاص من المجرم إذا لم تفعل السلطات النيوزيلندية ذلك! ليس هذا فقط، ففي الوقت الذي امتنعت معظم وسائل الإعلام العالمية عن بثّ الفيديو الذي صوره المجرم أثناء ارتكابه الهجوم، استخدم إردوغان تلك المشاهد في تجمع انتخابي في حملة الانتخابات. ثم راح يبحث في التاريخ عما يوقظ الأحقاد الطائفية، فعثر على معركة غاليبولي التي تعود إلى 100 عام (خلال الحرب العالمية الأولى سنة 1915) عندما قامت قوات غربية، من بينها قوات نيوزيلندية وأسترالية، بالهجوم على ذلك الموقع (المعروف بالتركية باسم جناق قلعة).
آردرن تواجه أيضا رأياً عاماً في نيوزيلندا ومنافسة سياسية من حزب يميني، هو حزب «نيوزيلندا أولاً» الذي لا يقل تعصبه عن أحزاب اليمين الغربية الأخرى. ونائبها ووزير خارجيتها هو من ذلك الحزب. غير أنها اختارت موقفاً عقلانياً ومكلفاً سياسياً في وجه موجات التعصب القادرة على الاستقطاب. وبسبب موقفها هذا، لم تسكت آردرن على السلوك النافر الذي تميز به رد الفعل الانتهازي الذي اتخذه إردوغان. فأرسلت وزير خارجيتها إلى تركيا لمواجهته، وطلب إيضاحات لتصريحاته. أما في بلدها فقد كان سلوكها إيضاحاً كافياً لحقيقة الفرق بين الانفتاح والرحابة، وبين التعصب والانغلاق. سعت آردرن إلى محاولة لملمة آلام أهل الضحايا وحزنهم، مرتدية الحجاب في زيارات تعزيتهم، كتعبير رائع عن احترامها لمشاعرهم. واعتبرت أيام تشييع الضحايا مناسبات للحداد الوطني.