حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

ما بعد سقوط «داعش»

في الثالث والعشرين من مارس (آذار) الحالي سقط جيب الباغوز المعقل الأخير المأهول لتنظيم «داعش»، بعد ستة أشهر من الهجوم الكبير الذي بدأته «قسد» لاقتلاع الإرهابيين الذين تحصنوا في الريف الشمالي لدير الزور. تحقق انتصار كبير أنهى عملياً آخر مواقع سيطرة «دولة الخلافة» التي اشتملت على أراضٍ واسعة بدءاً من يونيو (حزيران) عام 2014 وقت إعلان أبو بكر البغدادي قيامها. بهذا الانتصار – المنعطف، تم تسجيل نقطة تحول في الحرب لاجتثاث الإرهاب الذي مثله «داعش» كتنظيم إجرامي، وفي الوقت عينه تم تسجيل نقطة فاصلة في الحرب السورية المستمرة منذ 8 سنوات.
هناك إجماع على أن هذا التنظيم الإرهابي الذي هُزمت «دولته» الفعلية، تشكل «دولته» الافتراضية تهديداً حقيقياً للسلم والأمن مع وجود 10 فروع عالمية لها، لكن ذلك لا يغير من طبيعة الانتصار فمن حق «قوات سوريا الديمقراطية» أن تحتفل بالإنجاز الذي تزامن مع احتفالات النوروز، فهذه القوات من كرد وعرب، عمادها «وحدات حماية الشعب» الكردية، خاضت أطول حربٍ ضد هذا الإرهاب، بدأت في العام 2014 من مدينة كوباني وانتهت بانتصار الباغوز. خلال ذلك شكل الدعم الكبير المقدم من الولايات المتحدة والتحالف الدولي، عنصراً حاسماً في هذا الانتصار الذي كلف «قسد» أكثر من 11 ألفا من خيرة مقاتليها، وما يزيد على 21 ألفاً من الجرحى بينهم الألوف إصاباتهم بليغة، وأدى الانتصار إلى تحرير 52 ألف كيلومتر مربع من الأراضي السورية شرق وشمال الفرات، وتم إنقاذ نحو 5 ملايين سوري، وأسرت «قسد» أكثر من 5 آلاف إرهابي من 48 جنسية وتجاوز عدد قتلى التنظيم الإرهابي العشرة آلاف. ومن حق التحالف الدولي ولا سيما الجانب الأميركي الاحتفال بالإنجاز، الذي حجّم كثيراً خطراً شكّل كابوساً للبشرية جمعاء، والاحتفال أيضاً بنجاح استراتيجية أميركية وُضِعت منذ العام 2014 وتطورت مع الإدارة الأميركية الحالية استندت إلى خوض هذه الحرب عبر حلفاء محليين فتحمل أهل شرق الفرات العبء الأكبر في هذا الانتصار.
عندما يدور الحديث عن «قسد»، يكون الحديث عن قوات محلية كردية وعربية صنعت الانتصار. وإذا كانت «وحدات حماية الشعب» قد تحولت مع الوقت إلى قوات نخبة، فإن مشاركة القبائل العربية من الحسكة إلى دير الزور كانت فعالة ومميزة، لا سيما من قبائل البكارة وشمر والعكيدات والشعيطات وسواها التي أمّنت مجتمعة نحو 18 ألف مقاتل عربي ضمن هرمية «قسد»، هنا نفتح مزدوجين للإشارة إلى أن تنظيم «داعش» في مرحلة الصعود قتل 700 شاب من قبيلة الشعيطات وحدها لأنها واجهت تسلطه، وفي قتال «داعش» شاركت هذه القبيلة بنحو 1200 مقاتل من ضمن «قوات سوريا الديمقراطية». هذه الحقيقة تستحق الوقوف عندها مع تنامي التهديدات لشرق الفرات من جانب إردوغان والأسد على حدٍ سواء. كوباني كانت تُذبح على مرأى الدبابات التركية التي لم تكتف بأنها لم تنجدها بل كانت تؤمن الممر الآمن لقتلة «داعش» ينتقلون عبر تركيا إلى سوريا والعراق، فباتت «قسد» اليوم رأس الحربة بوجه الأطماع التركية، أما نظام الأسد الذي ساهم في وجود التنظيمات المتطرفة مثل «داعش» و«النصرة» لتبرير ارتكاباته، وتجاهل عرض النقاط العشر، فسيكون مطالباً باحترام المكانة والدور لـ«قوات سوريا الديمقراطية».
الانتصار كبير لكن لا ينبغي أن يحجب الخطر الكامن لأنه كبير أيضاً، حتى الآن ما زال أبو بكر البغدادي زعيم «داعش» طليقاً وإن كانت حركته شبه مقيدة، كما أنه لا أحد من قيادات الصف الأول وقع في أسر «قسد» التي تحتجز نحو 6 آلاف إرهابي، ويتضح أن القيادات الرئيسية جرى إخراجها باكراً من مناطق المواجهات، وترجح جهات أمنية أن «داعش» منذ بدأت حرب إخراجه من الموصل أطلق عملية تكيف وعودة إلى أسلوب حرب العصابات، والتحضير لضربات مؤلمة خارج المنطقة كما أكدت وثائق كشفت عن تخطيط لترويع أوروبا والغرب، ومعروف أن الفرع الأوروبي لـ«داعش» هو الأكثر عنفاً ودموية.
يمكن للمتابع أن يلاحظ أن «داعش» قد نفذ خلال سنة مئات العمليات الإرهابية في سوريا والعراق مستخدماً المفخخات والهجمات الانتحارية، وشملت مناطق من نينوى والأنبار وامتداد نهر الفرات إلى درعا ومناطق من حماة وإدلب وتمت كلها في إطار حرب العصابات، وأراد عبرها توجيه رسائل بأنه موجود، وأنه انتقل إلى نمط جديد من الإجرام وإن كان أقل زخماً من السابق. وفي هذا السياق يؤكد الجنرال بول لاكاميرا الذي يقود المهام الدولية المشتركة ضد «داعش» أنهم اتخذوا في وقت مبكر «قرارات محسوبة للحفاظ على ما تبقى من أفراده وقُدراته».
يوم الاحتفال بالنصر أعلنت «قوات سوريا الديمقراطية» عن بدء مرحلة جديدة عسكرية وأمنية في محاربة «داعش» للقضاء على الوجود العسكري السري للتنظيم لأن الخلايا النائمة تشكل خطراً أكيداً على المنطقة والعالم، والأعداد لا تقل عن 20 ألفاً بين سوريا والعراق. ويحتل «داعش» جيباً صحراوياً كبيراً غرب الفرات، ويبدو في موقع المساكنة مع قوات النظام السوري والميليشيات المتطرفة لـ«الحرس الثوري الإيراني» (...) كما ينتشر في صحراء الأنبار، وعلى الأرجح اعتمد هذا التنظيم «خطة باء» التي بموجبها أُوكِلَت القيادة إلى جهازه السري الذي يمتلك إمكانات التمويل والتسليح وتنسيق العمليات الإجرامية، ويتردد على نطاقٍ واسع أن هذه الجماعة الإرهابية اعتمدت استراتيجية ثنائية؛ أولاها الذوبان في المدن والتخفي وسط التجمعات السكانية، وثانيتها اعتماد الخلايا العنقودية والنائمة لتوجيه ضربات مقلقة تربك المشهد.
دون أدنى شك الانتصار هو إنهاء للسيطرة المكانية لدولة «الخلافة» وهي كانت جاذبة للإرهابيين من كل جهات الأرض، وبات الاستقطاب اليوم صعباً جداً، لكن «داعش» الذي استثمر فيه غير طرف ما زال بمعنى ما بندقية للإيجار سيستخدمها أصحاب المشاريع، وهذا يجب أن يكون بالحسبان. صحيح أن العمل الأمني الآن بالغ الأهمية لكن الأمن في شرق الفرات على وجه الخصوص، وفي كل المناطق الأخرى، يتطلب مصالحات عميقة وإجراءات حقيقية مجتمعية وسياسية وثقافية وطائفية، تعالج الأسباب التي مكنت «داعش» من النمو وإلاّ سيبقى الانتصار مؤقتاً بانتظار بروز تشكيل إجرامي أكثر عنفاً وأشد خطراً.