إميل أمين
كاتب مصري
TT

فتنة الدنمارك... الكراهية لا تفيد

ما الذي يحدث حول العالم، ولماذا تبدو الأحداث والوقائع وكأن هناك أيادي خفية تحاول إشعال نيران الفتنة شرقاً وغرباً؟
لم تهدأ بعد نيران أزمة الاعتداء على مسجدي كريست تشيرش في نيوزيلندا، إلا وفتنة أخرى تطل علينا من الدنمارك، من قبل تيارات يمينية متطرفة، وإسلاموية راديكالية متشددة، ليبقى سلام العالم تائهاً بين الفعل ورد الفعل.
لم ينس العالمان العربي والإسلامي إشكالية الرسومات والكتابات وأزمة الدنمارك في النصف الأول من العقد الفائت، وكان الرهان على أن ذاكرة العوام لا تزيد على ثلاثة أعوام، وقد حاولت بالفعل قوى معتدلة من داخل الدنمارك معالجة الخطأ، وسعت في طريق إقامة الجسور، إلى أن جاءت الأحداث في الأيام القليلة الماضية، وكأني بها تحاول استدعاء الماضي بمثالبه غير المحبوبة ولا المرغوبة من القاصي والداني.
المشهد باختصار جرت وقائعه من خلال قيام أعضاء من أحد الأحزاب الإسلامية المحظو في الكثير من بلدان العالم الغربي والإسلامي أيضاً، وإن كانت الديمقراطية الدنماركية تتيح لهم مجالاً واسعاً للعمل، بالدعوة إلى الاحتجاج على ما سموه النبرة التي يتم التعامل بها معهم خلال المناقشات العامة في البلاد، بالإضافة إلى لفت انتباه المجتمع إلى مذبحة نيوزيلندا، ولهذا قرروا أن يقوموا بأداء صلاة الجمعة الماضي أمام مقر البرلمان الدنماركي، فيما أشارت بعض وكالات الأنباء إلى أنهم قد حصلوا على إذن بذلك من السلطات المعنية.
اعتبر اليمين الدنماركي المتطرف أن مبادرة حزب التحرير فيها الكثير من المغالاة، بل التمادي الذي يزعج من تصرفات الجماعة المتشددة، سيما وأن هناك طرقاً عدة يمكن من خلالها ممارسة الاعتراض على التطرف اليميني النيوزيلندي غير محاولات الصلاة جهراً أمام البرلمان.
في هذا السياق، كان حزب «النهج الصلب» الدنماركي اليميني المتطرف برئاسة راسموس بالودان يشعل أوار تابعيه ويدعوهم لإقامة مظاهرة قريبة على بعد مائة متر من مكان صلاة أنصار هذا الحزب، حيث قاموا باستفزاز المصلين من خلال تراشق بنسخ من القرآن التي تعهدوا سابقاً بحرقها، وإمعاناً في إظهار وجه الكراهية غلفوا تلك النسخ بشرائح من لحم الخنزير.
قمة الشر المجاني من قبل «بالودان»، تمثلت في قيامه بحرق مصاحف علنا في مكان تجمعهم، فيما كان بعض أنصاره يصورون المشهد لينشروه لاحقاً في مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى يثيروا أكثر ما يمكنهم إثارته من الضغائن والأحقاد في النفوس، فيما يقرأ أنصار اليمين الأوروبي المتطرف الرسالة بأنها بداية لحملات مشابهة.
هل يمكن أن يمتد هذا الجنون إلى ما هو أسوأ؟
يخشى المرء أن يكون ذلك كذلك، سيما وأن المناخ العام يستحضر رموزاً وشخوصاً من أزمنة حروب القرون الوسطى، وفي هذا تقع الكارثة وليس الحادثة، والجميع يترقب انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو (أيار) المقبل، والتساؤل على الألسنة وفي العقول: «هل سيتنكر الأوروبيون لإرث التنوير والإنسانيات الحقيقية، لصالح جماعات الكراهية وأصحاب نظريات تقسيم العالم؟».
يحتج بالودان على أداء صلاة الجمعة أمام مبنى البرلمان الدنماركي، فيقوم بإرسال واحدة من أخطر الإشارات المهينة والممتهنة لمشاعر مليار ونصف المليار مسلم حول العالم، ما يجعلنا نتساءل: من يسعى من قلب الدنمارك تحديداً للوقيعة بين أوروبا والمسلمين في ست قارات الأرض؟
التساؤل ليس ضرباً من ضروب البحث في ثنايا وحنايا المؤامرة، لكن مبعثه السعي الحثيث لمحاولة إنقاذ العالم من الأسوأ الذي لم يأتِ بعد، وإن بدت إرهاصاته تخيم على سماوات العالم.
يكاد المرء يوقن بأن هناك من يريد أن يقطع الطريق على أي مسار تصالحي أو تسامحي بين العرب والدنماركيين بنوع خاص، وهم من أوائل الشعوب الأوروبية الاسكندنافية تحديداً التي اهتمت بفتح آفاق ثقافية معرفية على العالمين العربي والإسلامي. ففي عام 1761 أرسل ملك الدنمارك وقتها عدداً من علمائه الرجال إلى العالم العربي، الذي كان يبدو غامضاً وغير معروف آنذاك في مهمة استكشافية لمدة عامين للتعرف على الفكر الثقافي وأصول العبادة الإسلامية، وطبيعة شعوب المنطقة، وامتدت العلاقات حتى كانت الواقعة المشار إليها سلفاً.
الذين لهم دالة على علوم الاستراتيجية، التي كانت تعنى في الأساس بالخطط العسكرية، وباتت تمتد لاحقاً إلى جميع مناحي الحياة، يلفت انتباههم أن هذا المد اليميني المتطرف يعطي قبلة الحياة للجماعات الإرهابية التي دفع العرب والمسلمون ثمنها عالياً وغالياً مؤخراً، وبالتساوق نفسه فإن كل عملية إرهابية روعت الآمنين على الأراضي الأوروبية، قد اختصمت من أعداد المعتدلين والناظرين إلى العرب والمسلمين نظرة إيجابية أو حيادية لصالح معسكر مغاير، لا يحمل خيراً، بل يعمق شروخاً في جدار النسيج الإنساني حول العالم، وكأن واضعي الخطط يسعون إلى هدف بعينه هو امتهان الإنسان والأديان دفعة واحدة وبلوغ ذروة المواجهة الكارثية.
الشرق والغرب في الأوقات المعاصرة المأزومة مدعوان لأن يحييا حياة النضج الإنساني والوعي اللاهوتي والفقهي والاختمار الروحي، ما ييسر للجميع لاحقاً النهوض لتجديد صياغات فذة من التعايش الواحد، عرفها التاريخ رغم كبوات الماضي، ما يهب الجميع قدرة على بلورة نضال مشترك يصون القيم الإنسانية السامية، وفي طليعتها الحرية، والعدالة، والمساواة، والإخوة.
الخلاصة: الكراهية لا تفيد... المحبة هي الحل.