يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

الإرهاب الأشقر و«الإحلال المقدس»

لا يزال العالم يعيش صدمته، كل من زاويته، على أثر مذبحة نيوزيلندا، التي شاء الإرهاب عن قصد أن يخدش صورتها النقية كثاني بلد آمن في الكوكب، وفق التصنيف العالمي، ويقول لنا إنه لا مكان آمناً بعد الآن. صدمة الدول الغربية المثقلة بأزمة اندماج مواطنيها من المسلمين كبيرة، فما كان يُظن أنه مجرد تصرفات لا مسؤولة لثقافة اليمين المتطرف بات اليوم يقترب من تأسيس موجة تخرج من حيز «ردة الفعل» إلى التيار الذي يستند إلى مرجعية فكرية، وهي المرحلة التي عاشتها التنظيمات الإرهابية ذات المرجعية الإسلامية قبل أن تنتقل من فضاء الأفكار إلى التنظيم والتأطير الحزبي. الإنكار الآن، أو رمي كرة اللهب صوب الشرق والعالم الإسلامي، لن يفيد إلا المتاجرين بالإرهاب والمنتفعين من اشتعال جذوته.
مع كل حدث إرهابي يترسخ مفهوم أن التطرف والعنف حالة مستقرة تنتظر فتيل انفجار مسبباتها، وليس مجرد احتقان أو موجة عابرة أو تصرف فردي. تختلف المرجعيات وتتباين الدوافع، لكن يظل المحرك والخطاب النظري متشابهاً، حيث التعصب لا دين له ولا مذهب، وحين قرأت «مانفستو» تارانت «الإحلال المقدس» (78 صفحة)، الذي يعتبر وثيقة في غاية الأهمية، وجدته متشابهاً مع «إدارة التوحش»، وثيقة «القاعدة» الشهيرة، وتلك قصة أخرى.
اليوم الدامي الذي وقع في نيوزيلندا، وراح ضحيته 50 مصلياً وعشرات الجرحى، لم يعد كالحوادث السابقة غامضاً أو من يقف وراءه، ومن الخطأ اعتباره تصرفاً فردياً أو أقرب إلى التصرف الفردي، كما نرى في محاولات تحجيمه في القراءات الأمنية، وذلك باعتبار الخبيريْن في ملف الإرهاب في نيوزيلندا ذاتها، جون باترسبي وبول بوكانان، أن فيروس الإرهاب في اليمين المتطرف تحول إلى لحظة فاصلة بعدما حدث، وأن الموارد في أجهزة الأمن أخطأت بتركيزها على التطرف الإسلاموي وإهمال اليمين، وهذه شجاعة لا تقل عن تصريحات رئيسة الوزراء الشابة التي تحدثت في مؤتمرها بطريقة مسؤولة جداً، وغير مسبوقة، «نيوزيلندا حزينة، تبحث عن إجابات»، كما قالت.
القراءة الأمنية أو القانونية لا تساعد كثيراً على فهم ظاهرة ليست جديدة، وهي إفرازات اليمين المتطرف وخطابه العدائي الذي يمكن لبعض أفراده مثل الشاب تارانت، الذي أكد في وثيقته أنه تأثر بمفكرين من اليمين الفرنسي، وأنه خطط للعمل منذ عامين، واستشار الكثير من القيادات في الخارج، وكان متأثراً حتى وقت تنفيذ العملية بمناخات اليمين المتعصب في شرق أوروبا والبلقان، أن يقتل على طريقة ألعاب الفيديو، بموسيقى «محو الكباب»، الأغنية العنصرية التي تستدعي التاريخ بشكل يتطابق مع أهازيج «داعش» عن الغزوات، وهذه تفاصيل يجب ألا تقرأ خارج إطار المسؤولية الفردية والقانونية التي تطال المنفذ، وتنفذ إلى جوهر المشكلة، وهو وجود مرجعية نظرية وفكرية للإرهاب تؤسس للإرهاب المتصل بالأفراد.
رد الفعل تجاه كارثة النرويج كان صادماً إذا ما نظرنا إليها من زوايا مختلفة؛ فالإعلام الغربي وقع بعد الحادث مباشرة في فخ «التنميط والنمذجة»، ولا تكاد تستثنى من تلك السقطة الصحف العريقة مثل «واشنطن بوست»، بل حتى منافذ الإعلام الجديد، وعلى رأسها «تويتر»، الذي زخر بتعليقات كثيرة تشير بأصابع الاتهام إلى المهاجرين المسلمين، أو تحاول تنشيط الذاكرة بواقع «الخلايا الجهادية» النائمة في أحضان الغرب الدافئة!
كارثة نيوزيلندا لم تكن الأولى، نتذكر جيداً ما حدث في النرويج، وما يحدث بشكل متقطع في بلدان أوروبية كثيرة، ووقتذاك خاض خبراء الإرهاب الغربيون في افتراضات ترحل المشكلة والأزمة، وتعزز من تنميط الإرهاب، ومحاولة أسلمته بالقوة، أو جعله مجرد ردة فعل.
هذه «النمذجة» يمكن فهمها في السياق الغربي، وإن كانت مرفوضة، ولا يمكن تبريرها بحال في إطار ما يمكن تسميته «العدو الافتراضي»؛ فالتاريخ الطويل من العمليات الإرهابية التي حفل بها سجل تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، جعل حالة الاستسهال جزءاً من العيوب والنتائج السلبية لمخرجات الإعلام، الذي يمر بتحولات هائلة على مستوى المصداقية، ومرجعية الخبر، وطريقة نسبته للمصدر، بسبب حالة التنافسية بين الإعلام الجديد والتقليدي، لكن ما لا يمكن فهمه، فضلاً عن تبريره، حالة الابتهاج التي بدأت تطفو على السطح، ولا تخطئها العين في التعليقات الكثيرة التي لا ترى في الحادثة النيوزيلندية أبعد من كونها صادرة من متعصب يميني لا يعبر إلا عن نفسه، وهو ما يعزز وجود إشكالية فهم لدى قطاعات واسعة من المثقفين والمفكرين لموضوع «الإرهاب»، وكونه حالة لا تنتمي للمجال الديني، أو تقوم فقط على أسباب احتجاجية، أو بسبب أوضاع التهميش وضياع الحقوق، ولأسباب تتصل بالاستبداد السياسي، بل هي آيديولوجيا متطرفة مستقلة، تعبر عن «انفجار المكبوت» الذي يعبر عنه علماء النفس ودارسو الظواهر كميشيل فوكو. نعم قد يتذرع الإرهاب بكل ما سبق ويقتبس منه، لكنه يظل شكلاً منفصلاً عن ممارسة التعبير غير السلمي لا يمكن أن نعده متفهماً إذا كان فاعله ينتمي لفضاء ديني أو فكري أو جغرافي، بينما تكون نقمة ودلالة على التعصب، وبُغض الإنسانية، إذا جاءت من الضفة الأخرى.
الآيديولوجيا المتطرفة خطاب مستقل بذاته له محدداته الفكرية، فهو يستند إلى فكرة أحادية لا ترى في العالم سوى ذاتها، وتحاول أن تفسر الآخرين على رؤيتها الخاصة تلك، ومن هنا يمكن إيجاد نقاط التقاء وتقاطعات في الأدوات وآليات التفكير والتنفيذ.
اليوم يجب أن يتحد العالم لإعادة موضعة «الإرهاب» في مكانه الصحيح تعريفاً وتقنيناً، وعلى مستوى الإجراءات الأمنية والمسؤولية للفاعلين، وعلى رأسهم شبكات التواصل الاجتماعي، فما يحدث من انفلات على مستوى المحتوى العنيف غير مبرر، لا على المستوى الأخلاقي والقانوني، وحتى التقني. الكثير من الدراسات تتحدث عن تقنية «الخوارزميات» وقدرتها على حجب المحتوى العنيف أوتوماتيكياً، لكن تلكؤ الكثير من المنصات هو لأسباب ترويجية وتسويقية فحسب.
هذا التطابق العجيب في ملامح العقل الإرهابي يقودنا إلى ضرورة قراءة الظاهرة في جذرها الفكري والآيديولوجي، وليس الاقتصادي والاجتماعي فحسب؛ فكثير من الإرهابيين لا يعاني من أي مشكلات في هذا الاتجاه، بل إن قراءة خطابه يعكس مدى حال الاستقرار النفسي والزهو الذي ملأ قلبه، وحتى في المحكمة حين أشار بعلامات التفوق العنصري للبيض، وقوله إنه لو قدر له أن يكرر ما فعل لما تردد... الإرهابيون فقدوا قيمة الحياة والوجود، وقراءة صادقة وفاحصة لاحتفالية بالموت كتلك هي جزء من إعادة الاعتبار لقيمة النفس البشرية ولقيمة الحياة.