سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

مدن الصيف: درس في القطار

في قطار «التالغو» السريع من مدريد إلى إشبيلية فرقة من تلامذة ومعهم أستاذهم في جولة تاريخية. يعلو ضجيج الفتيان فيقرر المدرّس إلهاءهم: «تعالوا نلعب هذه اللعبة. كل واحد منكم سوف يعطي إسبانيا عنواناً واحداً. ابدأ أنت يا إميليو، ماذا تعني لك إسبانيا»؟ هتف الجميع في صخب: «هيا يا إميليو، هيا، أرنا عبقريتك». قال إميليو: «بلاد دون كيخوتي طبعاً. الفارس الطيب وطواحين الهواء. فارس القتال الجميل. وبلاد مرافقه سانشو وحماره. إن معظم الحِكَم التي نحفظها أتت على لسان سانشو».
وهتاف طالب آخر لا يخلع قبعته: «لقد محت واقعيات الجنرال فرانكو كل أحلام دون كيخوته. حطّم جميع طواحين الهواء وأعدم الشعراء ووسع السجون وأغلق البلاد. لذلك، أنا أقول إنها بلاد الرجل الفظ». ضحك رفيقه وقال: «آه، لقد أصبح بإمكانك أن تقول ذلك بعد عام على وفاته. لو قلت هذا الكلام قبل عام لأحرقوا بنا هذا القطار».
قاطعهما المدرّس: «دعونا من الجدال، فلنبقَ في اللعبة. أنت يا فيلليبي ماذا تقول؟» كان فيلليبي ينتظر بوضوح أن يأتي دوره: «إنها بلاد الأندلس يا فتيان. بلاد القصور والحدائق والقنوات التي بناها العرب وأهملناها جميعاً. سوف ترون بأعينكم ماذا أعني عندما نصل إلى إشبيلية. لقد ترك لنا هؤلاء العرب كنوزاً بلا حدود، ثم ذهبوا يتقاتلون في بلدانهم. أنا أقول إن إسبانيا بلاد الأندلس».
وأنت، فلافيو، ماذا تقول؟ ويبدو أن فلافيو كان شاعراً أو فناناً، يلف عنقه بشال صيفي أحمر: «إنها بلاد القصائد. سرفانتس وغارسيا لوركا. بلاد الآداب. ابن حزم وابن عربي وابن سهل الإشبيلي. بلاد الفنون وبيكاسو وبلاد الحداثة». اعترض طالب يدعى خورخي، يسند رأسه إلى النافذة، «أية حداثة؟ أية حداثة؟ نحن بلاد محاكم التفتيش. هل نسيتم وصمة محاكم التفتيش»؟ قال المدرِّس معاتبا: «دعنا من الذكريات المسيئة يا خورخي. إننا نريد أن نجعل هذه الرحلة مرحة بقدر الإمكان». تقدم شاب طويل ناحل بالكاد نمت لحيته، وقال: «بالنسبة إليّ، نحن بلاد كريستوفر كولومبس. لقد عرفنا كيف نرعى هذا الإيطالي المغامر ونُرسله يكتشف أميركا. تصوروا لولاه، لما عرفنا المغني ألفيس بريسلي».
ضحك الجميع للنكتة، فيما كنت أتلقى درساً مجانياً في التاريخ. كانت تلك رحلتي الأولى إلى إشبيلية. وقد شعرت فيها ما شعرت في كل مدينة أندلسيَّة: ليتني أستطيع الإقامة.
إلى اللقاء..