إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

نحن العرب... وجارتنا السمراء

دعاني أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني لزيارته في مكتبه قبل بضعة أشهر. ولدى وصولي استقبلني أحد مساعديه الشباب عند المدخل، وكان من أصول أفريقية.
على الطريق إلى المكتب - كعادتنا كعرب - سألته عن أصله وفصله، فأخبرني أنه من سيراليون، وحسب أن الموضوع انتهى عند هذا الحد. ولذا فوجئ عندما سألته عما إذا كان من الميندي أو التيمني، وهما المكوّنان القبليان الأكبر في بلاده. فرد مبتسماً: «من الجانبين، فأبي من التيمني وأمي من الميندي... ولكن ما سرّ اهتمامك بسيراليون؟». عندها أخبرته عن اهتماماتي السياسية وعن أقارب ومعارف لي هاجروا إلى أفريقيا وعرفوها وأحبوها... فأحبتهم.
بالمناسبة، شهد الأسبوعان الماضيان انتخابات رئاسية في كل من نيجيريا والسنغال. الدولتان مهمتان تاريخاً وحاضراً في أفريقيا والعالم الإسلامي. ثم إن في الدولتين جاليات عربية قديمة وفاعلة. وأخيراً لا آخراً تشكل الدولتان - أو بعض شعوبهما - التُخمين البشريين الغربي والشرقي لمنطقة الساحل والصحراء التي تفصل شمال أفريقيا عن باقي القارة السمراء.
شعوري الخاص أننا لا نعرف ما فيه الكفاية عن جارتنا الجنوبية السمراء. لم نلم بتاريخها وتراثها، ولا نتفاعل كما يجب مع حاضرها، ولا نتأهب لمستقبلها كما تقضي مصلحتنا. وهنا أتذكر منذ الصغر حواراتي الفضولية مع بعض الأقارب والأصدقاء والمعارف الذين هاجروا إلى أفريقيا وعملوا هناك. وأذكر أنهم في الأغلب كانوا طموحين لكنهم محدودو الثقافة.
كانت كثرة منهم ذات مستوى تعليمي متواضع، وما كانت مكترثة للشق الحضاري من مغامرتها الأفريقية، حيث أولوية الأولويات للكفاح الشريف من أجل لقمة العيش. وبالتالي، كان على التفاعل الثقافي... الانتظار.
قلة ضئيلة منهم، كانت تميّز بين الشعوب والقبائل داخل الكيانات التي هاجروا إليها، وأقل منهم من يستطيعون التفريق بين لغاتها. والحقيقة، أنه حتى معظم المتعلمين في بلداننا كانوا أيضاً يجهلون هذه التفاصيل قبل عقد الخمسينات من القرن الماضي عندما انطلقت حركة التحرّر الأفريقي، وأخذت هذه الكيانات تستقل تباعاً عن مستعمريها الأوروبيين، وصارت أسماء القادة الاستقلاليين مثل كوامي نكروما وأحمد سيكوتوري وجومو كينياتا تتردد في الإذاعات وتتناقلها الصحف.
أيضاً كانت مجهولة لغير المتخصّصين في التاريخ والجغرافيا والسياسة الدولية أسماء حواضر مثل تمبكتو في مالي (السودان الفرنسي سابقاً)، وحركات إسلامية نهضوية كحركة عثمان دان فوديو في شمال نيجيريا، وتنظيمات ثورية مثل «المؤتمر الوطني الأفريقي» في جنوب أفريقيا... ناهيك بـ«الماو ماو» في كينيا.
اليوم، أحسب أن الوضع اختلف من حيث الشكل بفضل ثورة الإعلام والاتصالات والتواصل، لكنه لم يختلف كثيراً من حيث الجوهر. ففي العمق ما زلنا بعيدين جداً عن إدراك أهمية الإحاطة بما تخفيه لنا أفريقيا، بعكس قوى باتت تعي أهمية التنافس على كسبها.
الصراع الأميركي - الفرنسي ما عاد جديداً، والاختراق الصيني لوسط القارة وجنوبها غدا حقيقة واقعة، والاستثمارات الإسرائيلية تتنامى وتترسخ في كل مكان.
كل هذا، مع أننا - كعرب - معنيون مباشرة بأحداث القارة. معنيون بالثروة النيلية المائية التي تمسّ أمن مصر والسودان الغذائي. ومعنيون بآفات التطرف والإرهاب والهجرة غير الشرعية التي تهدّد غرب السودان وجنوب ليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا من خلف رمال الصحراء الكبرى. وهذا، من دون أن ننسى الأهمية الاستراتيجية للصومال وجيبوتي وإريتريا شرقاً وعلاقة القرن الأفريقي بأمن بحر العرب ومضيق باب المندب.
لوضع الأمور في نصابها وإدراك حجم التحدّي لنأخذ بعض الأرقام اللافتة، وجلّها من تقارير الجهات المتخصصة في منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات الإحصائية المحترمة. ولنبدأ بتقديرات نمو سكان العالم.
حالياً يزداد عدد سكان العالم بنحو 83 مليون نسمة سنوياً. وعلى الرغم من احتساب التفاوت واحتمال التباطؤ في النمو هنا وهناك، يتوقع بحلول 2070 أن يسجل أعلى نمو سكاني عالمي في أفريقيا. ومن زيادة 2.4 مليار متوقعة بين عامي 2015 و2050 سيكون نصيب أفريقيا وحدها 1.3 مليار نسمة. وعلى صعيد النسب المئوية، ستزداد نسبة أفريقيا من مجموع سكان العالم من 16 في المائة عام 2015 إلى 25 في المائة عام 2050، ثم 39 في المائة عام 2100.
كذلك، تشير الأرقام إلى أنه في عام 2050 ستكون بين أكبر عشر دول في العالم ثلاث دول أفريقية هي: نيجيريا (411 مليون نسمة) وجمهورية الكونغو الديمقراطية (195.3 مليون) وإثيوبيا (188.5 مليون). وسيتجاوز التعداد السكاني حاجز الـ100 مليون في ثلاث دول أخرى.
ولندع الدول جانباً، وننظر إلى نمو المدن. هنا يتوقع بحلول عام 2025 أن تحتل ثلاث مدن أفريقية هي - على التوالي - كينشاسا (الكونغو الديمقراطية) ولاغوس (نيجيريا) والقاهرة (مصر) المراتب الـ11 والـ12 والـ13 عالمياً. وفي عام 2050 ستحتل كينشاسا المرتبة الرابعة، ولاغوس المرتبة السادسة، والقاهرة المرتبة الـ11. ثم في عام 2075 ستقفز كينشاسا إلى المرتبة الأولى عالمياً (58.42 مليون نسمة) وتحتل لاغوس المرتبة الثالثة (57.2 مليون)، ودار السلام (تنزانيا) المرتبة الثامنة، والقاهرة المرتبة التاسعة. ثم في عام 2100 ستصبح لاغوس كبرى مدن العالم بأكثر من 88 مليون نسمة، تليها مباشرة كينشاسا في المرتبة الثانية (83.53 مليون)، ثم دار السلام في المرتبة الثالثة (بأقل بقليل من 73.7 مليون)... أما اللافت فهو أن مدينتين أخريين ستشقان طريقهما صعوداً إلى مصاف المدن العشر الأكبر في العالم، هما العاصمة السودانية الخرطوم ونيامي عاصمة النيجر.
طبعاً، هذه توقعات قد تصحّ أو لا تصحّ على المدى البعيد، مع أنها تعتمد أحدث التقنيات العلمية في الاستقراء والرصد والإحصاء. غير أن ما أرمي إليه هو ضرورة أن نتنبه إلى أفريقيا... التي هي ليست فقط «جارة» جغرافية، نتأثر بأوضاعها وتتأثر بأوضاعنا، بل هي عملاق نائم، وينطبق عليها اليوم التحذير الذي أطلقه نابليون بونابرت في الماضي عن الصين عندما قال: «الصين عملاق نائم. دعوها نائمة لأنها إذا استفاقت ستحرك العالم».
نعم. أفريقيا، أيضاً، عملاق نائم.
عملاق ديموغرافي واقتصادي وسياسي وأمني نائم... وقريب منا جداً.