وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

السؤال النفطي الذي يحتاج إلى إجابة

عندما نرجع بالذاكرة إلى الماضي القريب، وتحديداً قبل 9 سنوات، فسنجد أن أسعار النفط عكست بشكل كبير أساسيات العرض والطلب رغم أنها كانت تتعرض لضغوط كبيرة من المضاربين. أما اليوم، فلم تعد هذه الحال كما كانت، وأصبحت الأساسيات في ناحية؛ والسوق النفطية في ناحية أخرى.
في عام 2008 تعرضت أسواق النفط لمضاربات شديدة جداً قفزت بالأسعار إلى 147 دولاراً للبرميل في يوليو (تموز)، ثم عادت الأسعار وانهارت تماماً في آخر ذلك العام. وبعد ذلك دخلت الأسواق في اضطرابات جيوسياسية بدءاً من أواخر 2010، ولكنها لم تؤثر على إنتاج النفط بشكل كبير، ما عدا الإنتاج في ليبيا الذي هبط إلى الصفر، لتظل الأسعار متماسكة فوق 100 دولار منذ ذلك الحين وحتى 2014.
ومما زاد في ذلك الارتفاع الكبير والمتواصل لأسعار النفط، الحظر الأميركي على صادرات إيران البترولية في 2012.
اليوم تعيش السوق النفطية وضعاً مشابهاً؛ إذ فرضت الولايات المتحدة حظراً على صادرات إيران، وتواجه فنزويلا حظراً مماثلاً زاد من مأساتها النفطية بعد انهيار إنتاجها بمعدلات هي الأعلى في تاريخ البلاد. ولا يزال إنتاج ليبيا يتأرجح صعوداً وهبوطاً، وأثناء كتابة هذه السطور، فإن الإنتاج من أكبر حقول ليبيا متوقف بسبب عوامل أمنية.
إن معروض النفط تحت ضغط شديد بسبب الأوضاع في إيران وفنزويلا، إضافة إلى تخفيضات تحالف منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) والمنتجين خارجها المعروف باسم تحالف (أوبك+)، وانقطاعات أخرى، ومع هذا لا تزال أسعار «خام برنت» ترتفع على استحياء ولم تصل إلى 70 دولاراً.
ما الذي تغير، وما السبب في كل هذا؟ إن هذا السؤال لا يحير فقط المراقبين؛ بل يحير المنتجين وكبار المسؤولين النفطيين في «أوبك»، ولا توجد إجابات واضحة عنه.
إن أقرب تفسير ممكن أن نضيفه إلى الحوار حول هذا الموضوع، هو أن العامل الكبير كان الإدارة الأميركية وطريقة تعاملها مع أسواق النفط، إضافة إلى التغييرات الهيكلية في قطاع النفط الأميركي؛ إذ أصبحت أميركا تتصدر منتجي العالم منذ 2018.
ولنفترض جدلاً أن مضارباً من المضاربين الكبار أو أحد مديري صناديق التحوط الكبرى في الولايات المتحدة، يريد أن يتخذ موقفاً معيناً، فعلى ماذا يبني موقفه هذه الأيام؟ هل ينظر إلى الأساسيات، أم ينظر إلى السياسات أو الإشارات السياسية الآتية من واشنطن وموسكو؟
بلا شك أن الأساسيات جزء مهم من المعادلة، ولكنها لم تعد كل شيء؛ إذ إن تغريدات الرئيس الأميركي دونالد ترمب على موقع «تويتر» للتواصل الاجتماعي تتفوق على كل العوامل الأساسية، لأن الأساسيات، خصوصاً العرض، تتحكم فيها عوامل سياسية مثل ضغط البلدان المستوردة أو المنتجة للنفط. وأمس عاد الرئيس الأميركي إلى مهاجمة «أوبك» في تغريداته، طالباً منها التدخل لمنع الأسعار من الارتفاع.
لو كنت مضارباً كبيراً لاتخذت قراري بناء على مواقف الرئيس الأميركي الذي يضغط على «أوبك» بشكل كبير لخفض إنتاجها منذ العام الماضي. وبدأ المشرعون في أميركا يحشدون عتادهم لفرض قانون «نوبك» على «أوبك» بتهمة الاحتكار والتلاعب بأسعار النفط.
وأصبحت هناك قناعة بأن الولايات المتحدة ستحاول جهدها ولن تسمح لأسعار النفط بأن ترتفع فوق مستوى معين. وساهم في الوضع الحالي التراخي في فرض حظر كامل على زبائن النفط الإيراني. وزاد من سوء الأمر التباعد الذي أظهرته روسيا هذا العام ومحاولتها البقاء في التحالف من دون الدخول في اتفاق طويل الأجل.
ولهذا لم تعد تفلح محاولات «أوبك» المستمرة للتعامل مع أساسيات السوق؛ إذ إن السياسة الأميركية تجعل النظر في الإنتاج أمراً ثانوياً. وليست سياسة الإنتاج فحسب، بل سياساتها التجارية تجاه الصين وباقي العالم؛ إذ إن الأسعار تشهد تحسناً في كل مرة تظهر فيها واشنطن سلاسة في التعامل مع الصين.
إن هذا العام سيشهد تطورات غريبة أغلبها سياسي، وستؤثر بشكل كبير على الأسعار، وبسبب ذلك لا يوجد المزيد لـ«أوبك» أن تفعله حالياً سوى محاولة معالجة الأساسيات والتركيز عليها لحين تبدل الأحوال السياسية التي أدت إلى هذا الوضع.
إن أساسيات السوق تحسنت بشكل كبير، والمخزونات النفطية تواصل هبوطها في الدول الصناعية، وتوقفت حالياً عند مستوى 15 مليون برميل فوق متوسط السنوات الخمس، ومن المتوقع أن يشهد هذا الشهر هبوطاً كبيراً في المخزونات... أما العرض؛ فلا يزال صحياً.
إن ما يجري اليوم أمر محير فعلاً؛ إذ لم تعد السوق تستجيب لشيء رغم نقص المعروض. وعلى «أوبك» الحفاظ على وحدتها وتماسكها في هذه الظروف التي تعصف بأسواق النفط، خصوصاً أن التحركات لفرض «نوبك» لا تزال تحوم حول المنظمة، وتزيد من الضبابية تجاه مستقبلها.