عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

العملية الحسابية والديمقراطية

إتقان العمليات الحسابية كالجمع والطرح ضروري لنجاح زعيم الحزب في النظام البرلماني.
زعيما الحزبين الكبيرين؛ «المحافظين» و«العمال»، اللذين سيطرا على المشهد السياسي للمملكة المتحدة لمائة عام، رئيسة الوزراء تيريزا ماي، وزعيم المعارضة جيرمي كوربين يواجهان امتحان الحساب.
الديمقراطية البرلمانية تختلف عن النظام الجمهوري؛ ففي الأول تصدر القوانين وتتخذ القرارات المصيرية عبر تمريرها بالتصويت.
مصير الحكومة نفسها يتحدد بصوت واحد مثلما حدث مع حكومة العمال بزعامة الراحل جيمس كالاهان (1912 - 2005) في عام 1979، عندما فقدت تصويت سحب الثقة وظل «العمال» خارج الحكم لثمانية عشر عاماً.
الاستثناء إذا نص قانون على نسبة تصويت معينة كحال قانون عام 2011 بتثبيت المدة البرلمانية بخمسة أعوام (أي فترة استمرار الحكومة قبل إجراء الانتخابات).
القانون يشترط أغلبية ثلثي النواب للتصويت بالسماح لرئيس الحكومة بتقديم الاستقالة للملكة وإجراء الانتخابات قبل انتهاء الدورة البرلمانية كما حدث في 2017.
أم البرلمانات وأكثرها استقراراً تمر بفترة اضطراب غير مسبوقة منذ عشرينات القرن الماضي.
الأيام الماضية شهدت ترك تسعة من نواب العمال للحزب؛ ثمانية منهم كوّنوا «المجموعة المستقلة» وتاسعهم يجلس وحيداً مستقلاً عن المستقلين!
تبرير التسعة هو «تكاسل زعامة الحزب ولجنته التنفيذية في التعامل مع تنامي معاداة السامية واستهداف النواب اليهود، خصوصاً النساء منهم».
التسعة من التيار البليري، متشددون في ولائهم للاتحاد الأوروبي وهدفهم إبقاء المملكة المتحدة في الاتحاد.
هذا جعل الكثيرين يشكون في أن تهمة معاداة السامية هي ستار دخان لإخفاء النيات الحقيقية، وهي للضغط على زعيم الحزب وهو اشتراكي من الطراز الكلاسيكي، لتبني دعوة توني بلير بإجراء استفتاء ثانٍ بأمل أن يغير الشعب رأيه ويصوت بالبقاء.
وهنا يواجه الزعيم العمالي العملية الحسابية المعقدة.
أغلبية نواب «العمال» يريدون البقاء في الاتحاد الأوروبي، لكنهم لا يمثلون معظم ناخبي دوائرهم التي صوتت بالخروج من الاتحاد في استفتاء 2016، المستر كوربين يخشى الاستجابة لضغوط نوابه المؤدية للانتحار في صناديق الاقتراع، فرغم أن الانتخابات مثبتة لـ2022، فإن توتر المشهد السياسي قد يؤدي لإجرائها في وقت مفاجئ.
وفي وستمنستر يحتاج المستر كوربين إلى نوابه إذا أراد هزيمة الحكومة. تناقص عدد المقاعد العمالية لحزب المستر كوربين من 246 إلى 237 أمر محرج، لكنها ليست مشكلة حيوية له، لأن المارقين التسعة لا يزالون يجلسون في مقاعد المعارضة الـ317، وهو زعيم المعارضة.
حزب المحافظين الحاكم فقد ثلاثة من أشد النائبات المتحمسات للبقاء في الاتحاد الأوروبي، تركن الحزب وانضممن للمجموعة المستقلة في مقاعد المعارضة المقابلة.
هذا التطور جعل حاجة السيدة ماي لإتقان العمليات الحسابية من جمع وطرح مسألة حياة أو موت سياسي بعد تناقص أصوات حكومة الأقلية إلى 311، لكن اتفاق «الدعم والثقة» بين المحافظين والنواب العشرة لحزب الوحدويين الديمقراطيين من آيرلندا الشمالية لا يزال يضمن الأغلبية العاملة، لكنها تناقصت من 12 إلى 9 أصوات. وإذا استمرت الأزمة وهجر خمسة آخرون مقاعد المحافظين يمكن أن تفقد الحكومة تصويت سحب الثقة.
وحتى إذا لم تفقد تيريزا ماي أياً من نوابها، وامتنع نواب الوحدويين الديمقراطيين عن التصويت (في حالة الاعتراض على تسوية مع الاتحاد الأوروبي تضعهم تحت سيطرة الجمهورية الآيرلندية) فستفقد تصويت الثقة لا محالة.
وفي حالة طرح عدم الثقة بالحكومة؛ هل يصوت المحافظون المنشقون والمنشقات مع المعارضة ضد المصلحة الشخصية؟
بإجراء انتخابات من شبه المؤكد أن يفقدوا فيها مقاعدهم بعد اتخاذهم مواقف معاكسة لما صوتت عليه أغلبية الدائرة.
معظم نواب المجموعة المستقلة الذين تحدثوا إلى الصحافة والإذاعة يدعون أنهم يريدون تغيير المشهد السياسي الحالي المستقطب بين الحزبين الكبيرين؛ «العمال» على يسار الوسط، و«المحافظين» على يمين الوسط، ولا مجال متروكاً للأحزاب الصغيرة.
الصحافة والشبكات التلفزيونية الليبرالية اليسارية (خصوصاً التي تدعم بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي) تحولت إلى منصة ترويج مجانية للمجموعة المستقلة طوال الأسبوع، وبعضها يحث مزيداً من النواب على الانضمام إليها.
هل تنجح المجموعة المستقلة في تأسيس «حزب وسط» يقدم الجديد إلى المشهد السياسي في البلاد؟
حتى الآن، اقتصرت خطب النواب والنائبات على الشكوى وانتقاد الحزب الذي هجروه وتهمة معاداة السامية، ولم يقدموا برنامجاً سياسياً ذا معنى.
الهدف الوحيد الذي يجمع نواب المجموعة المستقلة أنهم يريدون إلغاء «بريكست».
وبجانب استفزاز الناخب واحتقار إرادته بتجاهل نتيجة الاستفتاء، فإن رفض «بريكست» ليس برنامجاً سياسياً، كما أنه ليس أيضاً خيار وسط بين اليسار العمالي واليمين المحافظ.
فالانقسام الشعبي حول «بريكست» ليس على الخطوط التقليدية بين يسار (عمال) ويمين (محافظين)، لتعدد دوافع المصوتين بالخروج من الاتحاد الأوروبي وتشعبها.
نواب المجموعة المستقلة ليسوا من عتاة ساسة بريطانيا، ولا يعرفهم أحد خارج قاعة وستمنستر، بعكس ممن عرفوا في 1981 بـ«عصابة الأربعة» الذين انشقوا عن حزب العمال وقتها، ليؤسسوا الحزب الديمقراطي الاشتراكي. «عصابة الأربعة» كانوا وزراء خارجية ومالية وداخلية في الحكومات العمالية لعقدين، وكانوا رجال دولة ولهم مؤلفات ورؤية وبرنامج سياسي بديل عن برنامج العمال بزعامة مايكل فوت (1913 - 2010) الذي انحرف يساراً وقرر نزع السلاح النووي أثناء الحرب الباردة.
ورغم ارتفاع شعبية الديمقراطيين الاشتراكيين في الثمانينات (وصلت إلى 30 في المائة في استطلاعات الرأي)، فإنه عندما خاض أول انتخابات في 1983 متحالفاً مع الأحرار (بتبادل المرشحين بدل التنافس في الدوائر) لم يحقق نتائج تذكر، واندثر بعد أن اضطر للاندماج مع الأحرار رغم تحول الصحافة الليبرالية وقتها إلى منبر مجاني للحزب الجديد.
اهتمام الصحافة وليس الخدمات المقدمة للناخب وراء الشعبية في استطلاعات الرأي لأحزاب تشبه ما يسميه المزارع «النبتة الشيطاني» (أعشاب ضارة بالمحاصيل تظهر في الحقول وتقتلع بسهولة لعدم تعمق جذورها). شعبية قد يكون لها معنى في نظام القوائم النسبية لكنها لا تترجم إلى مقاعد برلمانية في نظام الدوائر الانتخابية.
حزب «بريكست» المكون حديثاً بزعامة نايجل فاراج زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة (اليميني) سابقاً، التحق به مائة ألف في الأسبوع الأول (مقابل 143 عضواً في المحافظين وقرابة نصف مليون في العمال).
ولذا يرتكب الاتحاد الأوروبي خطأ تاريخياً فادحاً برهانه على نجاح «المجموعة المستقلة» في تغيير التوازن البرلماني لإلغاء «بريكست»، فالاضطراب قد يؤدي إلى انتخابات تستبدل برئيسة الوزراء ماي زعامة أكثر عداء لبروكسل.