خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

طرائف الحلاق

من أطرف أدب الظرف العربي كان ما كتبه المازني عن حلاق قروي، بيد أنني قضيت سنوات في كلية الحقوق وأنا أحلق شعري لدى الأوسطى يوسف اللمبجي الذي كان يزاول مهنته من شنطة صغيرة يذهب بها إلى رؤوس الناس بدلاً من أن يأتي الناس برؤوسهم إليه.
كنا ننتظره في مقهى إبراهيم عرب في الكرنتينة قريباً من كلية الحقوق. نشرب الشاي ونتجاذب الحديث فنسب الاستعمار آناً ونترحم على زمن الإنجليز آناً آخر إلى أن يطل علينا اللمبجي بطلعته البهية وشنطته المهنية. يبادر فيسألنا؟ «دور من يا شباب»؟
كان حلاقاً ماهراً ومزوداً بشتى المعدات. ولكن مشكلته كانت أنه عاش عيشة مزدوجة، أنه حلاق في النهار ومطرب شعبي في الليل. وكثيراً ما خلط بين الاثنين، فيقطع الحلاقة بالغناء والغناء بالحلاقة كلما وجد من يستحق قص شعره أو لحيته. وهذا شيء لا يعنيني بكثير أو قليل.
ما كان يعنيني هو أنه كثيراً ما توقف عن الحلاقة والصابون يغطي وجهي والشعر يملأ عيني ليغني مقطعاً، أو ما كان يسميه «قفل». فيصحح به الأغنية المنطلقة من الراديو. «لا، لا، لا مو هالشكل يا أستاذ!» يقول مصححاً محمد عبد الوهاب وهو يغني «بالبر لم فتكم بالبحر فتوني... بالتبر لم بعتكم بالتبن بعتوني... يا ليل، يا ليليط. يضع الشفرة من يده في حضني ويبدأ بالغناء... كل هذا يهون. ولكنه كثيراً ما كان يجري بشفرته فوق حنجرتي. ثم يخطر له لحن من القبانجي أو يوسف عمر فينطلق بالغناء فتهتز بطنه وترتجف الشفرة الحادة فوق رقبتي وتصعد روحي إلى حلقومي من الخوف والقلق. أبادر لمخاطبته برفق ومودة: «عيني أبو يعقوب الله يخليك، بعدين، بعدين غنِ وتخلينا نسمع المقام منك». ولكنه يستمر ويرمي الشفرة بعصبية ويقول معترضا: «انتو المثقفين ما تتذوقون المقام. لو كنت آني واحد من هالمطربين الزعاطيط، سوري أو لبناني، كان تتذوقون صوتي وتصفقون لي».
وقبل أن أفتح فمي بكلمة، كان أبو يعقوب قد وضع يديه بأصابعه العشر على رأسه وانطلق بأعلى صوته، وهو يغني مقام القبانجي، يا راهب الدير:
شبكت عشري على رأسي وقلت له
يا راهب الدير هل مرت بك الإبل؟
وأثناء ذلك تكون شفرة الموسى قد بترت جزءاً من أذني أو أنفي وانساب الدم جزافاً: «ولا يهمك أستاذ خالد، هذا كله دم فاسد. الدم اللي يطلع من الموس دم خربان. أحسن يطلع وتخلص منه»!
لم تعان أذني فقط من شفرته بل من صوته أيضاً. كان يصرخ بأغنياته في أذني فأضطر إلى تحريك رأسي فتصيبني الشفرة في حنكي أو شفتي. «لا يا أستاذ خالد، ليش تحرك رأسك». هكذا يلقي باللوم عليّ. ينتهي دوري بكلمة «نعيماً أستاذ». الله ينعم عليك. ينفض الصدرية من الشعر استعداداً للزبون الآخر. يبادره هذا بالقول: «أبو يعقوب عيني، خلص الأغنية بالأول وبعدين احلق لي».