إميل أمين
كاتب مصري
TT

السعودية والصين... طريق الشرق الخّلاق

مع الزيارة الفائقة الأهمية التي يقوم بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى الصين كمحطة ثالثة وأخيرة في زياراته إلى الشرق الخلاق، يعن للباحث أن يتساءل عن أحوال ومآل الود الإنساني الموصول من الرياض إلى بكين، وهل هو حدث مستجد أم في أضابير التاريخ قصص وحكايات قديمة؟
يحدثنا عالم الآثار السعودي الدكتور علي إبراهيم الغبان في بحث علمي له عن التاريخ الطويل الذي جمع سكان الجزيرة العربية مع الصينيين منذ القرن الثامن الميلادي، وذلك من خلال طريق الحرير، وقد كان لموقف الصينيين السلمي من هذا المد الإسلامي جهة آسيا أكبر الأثر في تطور التجارة بينهم وبين أكبر كتلة اقتصادية شهدها العالم القديم، فلم يدخل الصينيون في صراع مع المسلمين الذين اقتربوا كثيراً من حدودهم، بل استطاعوا بحكمتهم المعهودة التكيف مع الوضع الدولي الجديد.
لا يكرر التاريخ أفعاله لكن غالباً ما تتشابه أحداثه، سيما أن محوره الرئيسي هو الإنسان، وها نحن نرى فصلاً مضافاً لفصول العلاقات السعودية - الصينية من خلال زيارة ولي العهد الأولى إلى الصين، بعد الزيارة التاريخية التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في عام 2017 إلى بكين والتي دفعت العلاقات الثنائية بين البلدين إلى مدار جديد من التفاعلات الإيجابية والتعاون المثمر على كافة الأصعدة.
من باكستان إلى الهند وصولاً إلى الصين يبدو واضحاً للعيان أن الأمير محمد ولي العهد يعمل ضمن خريطة واضحة لتحقيق وتمكين رؤيته للمملكة 2030، والتي تأخذ في تقديراتها الاستشرافية تغيرات الأوضاع الدولية، ورجحان كفة آسيا بالمقارنة مع العالم القديم، والصين ولا شك هي الجواد الرابح في مضمار سباق القرن الحادي والعشرين، والشراكة المعززة معها تعد ولا شك طريقاً مؤكدة لتحقيق أحلام التحول الاقتصادي السعودي من اقتصادات الريع النفطي التقليدي، إلى اقتصاد الابتكار المعجز الذي مضت الصين على دربه منذ ثلاثة عقود، وها هي وعن قريب سوف تصبح المكافئ الموضوعي للولايات المتحدة، ويتوقع أن تستبقها قبل نهاية القرن الحادي والعشرين.
كانت الطاقة ولا تزال ركناً أساسياً ورئيسياً في علاقات البلدين، ورغم كل ما يقال ويشاع عن وجود بدائل للنفط العام فإن الحقيقة المؤكدة هي أن النفط ولعقود قادمة سوف يبقى سائل الحياة الاقتصادية، الأمر الذي يواكب نهضة الصين وانتشار ظواهر ومظاهر التحضر في ريفها وحضرها على حد سواء، مما يعني حاجة عشرات ومئات الملايين من الصينيين إلى مزيد من الغاز والنفط، والمملكة هنا مرشحة بالدرجة الأولى لأن تكون المورد الأساسي للصين التي تغيرت جغرافيتها السياسية للنفط، وباتت تعتمد على الشرق أكثر من الغرب، فيما الاستقرار السياسي والاجتماعي في المملكة يدفع الصينيين دفعاً في طريق الاعتماد بأكبر قدر على الطاقة السعودية المعروفة باحتياطياتها الهائلة لقرون قادمة.
التعاون البراغماتي المستنير مع الصين يتيح للمملكة طاقة إبداع صناعي جديدة، فقد نجحت الصين في العقود الثلاثة الماضية في تحقيق ثورة اقتصادية، والمملكة بحسب «رؤية 2030» تسعى إلى تعظيم أفكار من خارج الصندوق لتجعل من المملكة محل وموضع قصة محدثة لانتصار البشر على الحجر، ولتحويل المواد الخام، لا سيما النفط إلى صناعات بتروكيماوية، تعد مدخلاً لسوق السلع الاستهلاكية والمعمرة معاً في العالم شرقاً وغرباً.
شيء ما يدعو الصينيين إلى النظر للمملكة والقيادة السعودية بكل احترام وتقدير، بل وسعي لتعظيم العلاقات الثنائية بينهما، تمثل في العمل على تنمية روح طريق الحرير وتعميق التعاون الثنائي، سيما وقد رأى الجانب الصيني المشاعر الإنسانية للمملكة والقائمين عليها إثر الزلزال المأساوي الذي تعرضت لها منطقة «ونتشوان» الصينية، فقد تبرعت المملكة بأكبر مساعدات مالية ومادية لإنقاذ المصابين والمنكوبين، وقد كان أكبر تبرع من دولة أجنبية للصين، وأكثر من ذلك تبرع العاملون في السفارة السعودية في بكين بدمائهم للمرضى الصينيين، مما جسّد مشهداً مؤثراً ينم عن الروح الإنسانية السامية، وهذه حقائق لا يمكن للصينيين أن ينسوها.
يتشارك العرب عامة وأهل المملكة خاصة مع الصينيين في العديد من القيم الإنسانية والأخلاق والمبادئ التي تتجاوز المادية القاتلة التي هيمنت على العقلية الماركنتيلية الغربية، والتي جعلت لكل شيء ثمناً ومقابلاً، وفرغت الروح من أهميتها وحضورها عبر الأجيال، وربما كانت هذه القواسم هي أيضاً العوامل التي أغرت عالم الاجتماع الأميركي الكبير صمويل هنتنغتون على رؤيته العالم مقسماً بين تحالف إسلامي كونفوشيوسي، أي عربي صيني غالباً، في مواجهة المعسكر الآخر المسيحي اليهودي، وهي خريطة لا يمكن أن توجد إلا في عقله فقط في زمن القرية الكونية التي حدث بها في ستينات القرن الماضي الكندي الأشهر مارشال ماكلوهان.
الجزئية الأخيرة تستدعي التوقف أمام علامة استفهام يطلقها الموتورون في الإقليم بنوع خاص والذين لا هم لهم إلا وضع العصا في دواليب أصحاب الرؤى الفاعلة مثل «2030» ومفادها: هل المملكة قادرة على تغيير حلفائها؟
يحمل السؤال في باطنه من عوامل الحقد والغيرة ما لا يوارى أو يدارى، ويغيب عن أشباه الدول التي انطلقت التساؤلات من حناجرها الإعلامية المسمومة أن المملكة، وهي الركيزة الدولية والخليجية الكبرى، تجيد رسم توازناتها السياسية انطلاقاً من عوامل التاريخ ومحددات الجغرافيا التي تعطيها وزنها وحضورها الاستراتيجي، بخلاف الجزر الهامشية التي لا قرار مستقلاً لها في الحال أو الاستقبال، بل الارتهان للآخر شبه المحتل لأراضيها وأجوائها وبحارها.
تسعى المملكة إلى بلورة أنساق ورؤى دبلوماسية تتعاطى مع حاجة العالم المضطرب والقلق، وإلى حين ولادة نظام كوني جديد، وفي هذا الإطار تبقى قوة خلاقة ورمانة ميزان واضحة وناصعة، تجاور وتحاور القريب والغريب، القاصي والداني، وهذا هو عمل الكبار من القادة والمسؤولين من أجل الخير العام والصلاح التام للأمم والشعوب، وهي أفكار علوية لا يمكن أن تخطر على قلب الصغار.
تكشف زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الصين عن المعين الحضاري والإنساني للبلدين، وتفتح الآفاق واسعة للتعاون المثمر بينهما، تعاون مقدم على أي رؤى آيديولوجية، في زمن باتت فيه التنمية المستقرة والمستمرة الهدف الحقيق بتحقيقه من قبل قادة الغد.