حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

صدمة اللبنانيين السنة بالزواج المدني

لن تذهب بعيداً تصريحات وزيرة الداخلية اللبنانية ريّا الحسن، عن استعدادها للبدء في حوار جدي لإيجاد إطار للزواج المدني. قد توقع الوزيرة معاملات أجريت في لبنان للزواج المدني، على غرار ما فعل الوزير الأسبق مروان شربل؛ لكن ذلك لن يغير في طبيعة مسألة الأحوال الشخصية، وارتباطها بالاجتماع اللبناني، واستطراداً بالنظام السياسي القائم هنا.
غني عن البيان أن فكرة الزواج المدني غير مقبولة من مختلف الهيئات الدينية، ولو في إطار قانون اختياري، لأسباب سياسية قبل أن تكون فقهية. وما أعلنته دار الفتوى في لبنان من رفض كامل للمسألة بعد تصريحات الوزيرة الحسن، هو الموقف التقليدي الذي يظهر كلما طرحت القضية على بساط البحث، والحال أنه بساط قديم وقد أُشبع بحثاً وتمحيصاً.
فليس من دعوة إلى تجديد الفقه أو الخطاب الدينيين في لبنان، على خلاف مصر مثلاً التي ظهرت الدعوة هذه فيها بعد سقوط حكم «الإخوان المسلمين»، والاعتقاد بأنهم وصلوا إلى السلطة باستخدام خطاب ديني استطاعوا تطويعه لمصالحهم السياسية، أو أنه ربما كان ملائماً لدعواهم في مرحلة الرئيس الأسبق حسني مبارك. ما من حالة مشابهة في لبنان.
ردود الفعل على آراء وزيرة الداخلية ينبغي أن يُنظر إليها من منظور المنطق الطائفي. وليست صدفة أن ردود الفعل الأعنف في رفضها صدرت عن الطائفة السنيّة، التي تنتمي ريّا الحسن إليها، في حين التزمت أكثرية الهيئات الدينية الصمت، أو تجاهلت الأمر برمته، فيما استحسن عدد من السياسيين الفكرة، من دون أن يرفقوا مواقفهم باقتراح خطوات لتحويل الزواج المدني إلى حقيقة قانونية.
يقوم المنطق الطائفي على المراقبة المستمرة واليقظة لأحوال الطوائف الأخرى. وغالباً ما يفرض مبدأ الضدية في أي رد على خطوات القوى المنافسة. بكلمات ثانية، في الوقت الذي يسبق فيه الانتماء إلى الطائفة والتمسك بهويتها الانتماء إلى الوطن أو إلى أي كيان عابر للطوائف (بعد انقراض الأحزاب العلمانية) يصعب على الهيئات التي تعتبر نفسها حافظة للهوية السنّية القبول بتصريحات تنطوي على تراجع عن أحد مكونات الهوية. القول بأن الاعتراض ينبع من حرص المؤسسة الدينية، على اختلاف مشاربها المسيحية والإسلامية، على مصالحها، يتجاهل الوجه الأهم للمؤسسة الدينية في النظام اللبناني، باعتبارها السياج الآيديولوجي للجماعة وضمانة عدم ذوبانها في الجماعات الأخرى، من خلال الخطاب الهوياتي.
ضربت فكرة الحوار من أجل إيجاد إطار للزواج المدني على هذا الوتر بالذات: لقد أيقظت الخوف من مزيد من التنازلات، التي يرى كثير من السنة أنها فُرضت عليهم بسبب خساراتهم المتعاقبة منذ أواسط العقد الماضي. الزواج المدني، بهذا المعنى، تهديد للهوية أولاً وللموقع في النظام اللبناني، الذي يفرض على الجماعات المشاركة فيه درجة مرتفعة من التوتر الداخلي، كتأكيد دائم على التميز، وهذا مبرر المطالبة بالتمثيل السياسي، ومدخل إلى «الحق» فيه.
يضاف إلى ذلك، أن تصريحات الوزيرة الحسن تعكس وضعاً خاصاً يعيشه اللبنانيون السنة منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، زعيمهم الأبرز بعد الحرب الأهلية. فهذه الطائفة التي مرت بتحولات كبيرة منذ الاستقلال، وتشكلت فيها فئات على مستوى عالٍ من التعليم والمكانة الاقتصادية، لم تبرأ بعد من صدمة اغتيال الحريري من جهة، ومن كونها الطائفة الأكثر انقساماً بين الريف والمدينة من جهة ثانية. تسبب هذا الانقسام في صعود تيارات «الإسلام الجهادي» في الأرياف السنّية، بين عامي 2013 و2015، بالتزامن مع صعوده في باقي المنطقة. وكانت لبعض الجهاديين اللبنانيين أدوار في التفجيرات التي وقعت في ضاحية بيروت الجنوبية وغيرها في تلك الأعوام. ولم يكن مفاجئاً أن يشكل «تيار المستقبل» رأس الحربة في الصراع ضد هذه الجماعات، التي رأى فيها خطراً وجودياً عليه وعلى جمهوره.
ومقابل سعي الزعامة السنية الحالية إلى الظهور بمظهر المعتدل والمنفتح والممثل لفئات مدنية وحديثة، تؤمن بمثالات العصر وروحه، ثمة شعور تعرفه هذه الزعامة جيداً، أنه لا يمكن المضي في أي خطوة في مجالات المواطنة والمساواة الجندرية، وما يدخل في هذا الباب، ما دام جمهور الطائفة في حالة تحدٍّ دائم مع جماهير الطوائف المقابلة. وبداهة أن مناخ التحدي والاستنفار لا يقتصر على طائفة دون غيرها، على ما أكدته مظاهرات مؤيدي «القوات اللبنانية» المستنكرة لأقوال بعض نواب «حزب الله» في حق الرئيس الأسبق بشير الجميل.
ولن يكون مفاجئاً إذا ثارت ضجة في الشارع المسيحي، في حال طالبت مسؤولة مسيحية بالسماح للبنانيات المتزوجات من أجانب بمنح أولادهن الجنسية اللبنانية. فالحساسية الطائفية المرتكزة إلى الهوية هي ذاتها في كل الجماعات، وإن تغيرت الموضوعات والأسماء.