إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

80 عاماً مع الريح

في 1949، قبل 70 عاماً، صدم سائق أجرة سيدة أربعينية كانت تعبر الشارع. دخلت في غيبوبة لخمسة أيام ثم فارقت الحياة في مستشفى في أتلانتا. إنها مرغريت ميتشل، الكاتبة الأميركية صاحبة «ذهب مع الريح»، الرواية التي بيع منها 30 مليون نسخة، وتحولت إلى فيلم ما زال يعرض في دور السينما وعلى الشاشات الصغيرة. واليوم، تحتفل هوليوود بمرور 80 عاماً على إنتاج الفيلم الذي بلغ مجموع عائداته ملياراً و850 مليون دولار.
يذكر ملايين الرجال والنساء، في أربعة أطراف العالم، المشهد الأخير من ذلك الفيلم. تقف البطلة سكارلت أوهارا تتأمل ما فات من حياتها. حب وخيبة وحرب وجموح وعناد. كيف سيكون مستقبلها؟ تزمّ شفتيها وتقرر: «سأفكر في كل ذلك غداً. غداً يوم آخر». يطوي القراء والقارئات آخر صفحات الرواية ويطلبون المزيد. أرادوا أن يصدر جزء ثان. طاردوا المؤلفة في كل مكان وكانوا يكررون السؤال: «هل ستعود سكارلت إلى رفيقها اللدود ريد بتلر؟». وقررت مرغريت ميتشل ألا تمسك بالقلم لتكتب تتمة لقصة الحب المحمومة تلك. لقد أخذت من عمرها عشر سنوات وليست مستعدة لفقدان عشر أخرى. ذهب إليها المنتج الأسطوري ديفيد سلزنيك وكاد يركع عند قدميها. لكنها هزّت رأسها ولم تخضع للإغراء المادي. بل وأضافت لوصيتها بنداً ينص على رفضها المطلق أن يكتب أحد أو يصوّر للسينما تتمة لروايتها.
بعد وفاتها، تولى شقيقها ستيف ميتشل إدارة تركتها. كان محامياً يعرف مهنته واحترم وصيتها. ثم زارته ذات يوم وكيلة شركة كبرى للإنتاج السينمائي. قالت له إن ملكيته لحقوق الرواية ستسقط بعد انتهاء مدة الحماية المقررة في القانون. عندها سيتطوع عشرات الكتّاب والمخرجين للقيام بالمهمة. وهو لن يتمكن من مقاضاتهم ولن يحصل على فلس أحمر. تناسى الأخ وصية شقيقته وبدأ التفاوض. غير أن مشكلات كتابة الجزء الثاني من «ذهب مع الريح» استمرت سنوات. فقد أقامت شركة «مترو غولدن ماير»، منتجة الفيلم الأول، الدعوى على عائلة ميتشل لأنها منحت حقوق الجزء الجديد لشركة أخرى.
وأروقة المحاكم، في أميركا، مثل الحمّام في مصر؛ دخوله ليس مثل خروجه. وكانت كل قضية تستولد قضايا جديدة. ولم يعد الشقيق الوريث يحتمل الانتظار. تقدم به العمر وما زالت الرواية في ضمير الغيب. وهو لن يقبض الملايين قبل الاستقرار على كاتبها. تم مات والمنازعات مستمرة ما بين اختيار فلان أو فلانة لكتابة الجزء المنتظر. ولما تقدم جيمس غولدمان، المخرج الحائز الأوسكار، بنص وافق عليه الورثة، رفضته شركة الإنتاج لسبب جوهري. لقد جعل «مامي»، خادمة سكارلت السوداء تموت بين يديها. وكان القراء قد أحبوا المرأة الوفية السمينة ولن يتقبلوا رؤيتها تحتضر. وحتى زوجة غولدمان ثارت عليه وصاحت فيه: «كيف تجرأت أن تقتل الشخصية التي سكنت قلوبنا؟».
أُجريت مسابقة لكتابة الجزء الثاني وتقدمت لها ست مرشحات، قدمت كل واحدة ملخصاً لمشروعها. واستقر الرأي على ألكسندرا ريفلي. كاتبة لم يسمع بها الأميركيون من قبل. هل كان أحد يعرف مرغريت ميتشل قبل صدور روايتها الوحيدة؟ الغريب أن ألكسندرا كانت تشبه مرغريت في الشكل وتقاربها في السن. وهي فوق ذلك تسير بمساعدة عكاز لتعرضها لحادث سير. وفي عام 1991 صدرت التتمة وحملت عنوان «سكارلت» وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني. ولم تذهب «مامي» مع الريح بل عاشت بأمر الحب. وكانت تلك واحدة من الظواهر الفريدة في الأدب، أن يتدخل القراء ليفرضوا رغبتهم على الكاتب.