داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

هل انتهت حقاً صلاحية الضمير؟

لحسن الحظ، فإن أكثرية الناس الساحقة هم من أصحاب الضمائر الحية. وهي نعمة كبرى من نعم الخالق على البشر. والأقلية القليلة تمثل أصحاب الضمائر الميتة. وعربياً فإن صاحب الضمير هو الإنسان الصادق الأمين المؤمن العطوف البار الصالح الذي يرفض كل ما اصطلحنا على تسميته بالفساد والكفر والجريمة وما يدور في دوائرها. ولكلمة الضمير مرادف آخر في اللغة العربية هو «الوجدان». وتعتبر شتيمة «ضمير سز» أو «وجدان سز» من أقسى الشتائم في العراق وبعض دول الخليج العربي. وحرفا «سز» يعنيان باللغة التركية «بلا» أي «بلا ضمير» و«بلا وجدان» على غرار ما كانت المرحومة ماري منيب تقوله للمبدع الراحل عادل خيري في مسرحية «إلا خمسة»: «أدبسز» أي غير مؤدب!
وقرأت أن علماء جامعة «هارفارد» الأميركية توصلوا إلى نظرية مفادها أن تكون حي الضمير، أو تعمل بما يمليه الضمير أكثر فأكثر، قد يمثل فرصتك لصحة أفضل وحياة أطول. ومع ذلك أمامنا أمثلة كثيرة عن أصحاب ضمائر ميتة لا يزورهم الموت إلا في أرذل العمر. بل إن الموت لا يتذكرهم مثل السفاح الصهيوني أرييل شارون الذي عاش ثماني سنوات بين عامي 2006 و2014 في غيبوبة دماغية مستمرة حتى كاد يتعفن حياً قبل أن يموت.
وهناك كثير من النظريات التي تدور حول أنماط الشخصية التي تتأثر طبعاً بالطبيعة من حولنا والجمال والقبح والمناخ والمجتمع والتراث والوراثة والثقافة. وتُصنِف أبرز تلك النظريات أنواع الشخصية في خمس مجموعات؛ هي: نمط شخصية القبول ونمط الشخصية حيّة الضمير (يقِظة الضمير) والشخصية الانبساطية والشخصية العصابية والشخصية الانفتاحية. وهذا المقال ليس درساً في النظريات العلمية، فأنا لا أزعم أنني خبير في السلوك البشري وأستطيع قراءة الضمائر، ولذلك أتعكز على العلماء الذين يقولون إن الشخصية تنشأ في الطفولة ويستمر نموها في مرحلة المراهقة. ومع هذا فإن الشخصية ليست قالباً من الحجر، إذ إن ظروفاً معينة تؤدي إلى ظهور سمات مختلفة في شخصية الفرد. كما أن الشخصية تتغير مع تقدم العمر. وأظهرت الدراسات أن الانفتاح يبلغ ذروته في مرحلة الشباب، بينما يصبح أكثر الناس من ذوي الضمائر الحية بعد تقدمهم في العمر وإعلانهم التوبة عما مضى.
ويؤكد العلماء أن نمط الشخصية الذي يترابط أكثر من غيره من الأنماط الأخرى مع التمتع بصحة جيدة هو نمط «الشخصية حيّة الضمير». ووجَدَت إحدى الدراسات أن الأشخاص الذين تم تقييمهم في عمر ثماني سنوات من قبل آبائهم ومدرسيهم هم من ذوي الضمائر الحية ويكونون في العادة مستقبلاً من الأشخاص الأطول عمراً. وأستدرك لأقول إن هذا لا يعني أن كل كبار السن ذوو ضمائر حية، فبعض هؤلاء يتزوج بنات في عمر حفيداته! وسمعت أحدهم يقول ساخطاً: لقد انتهت صلاحية الضمير في هذا العصر المعقد!
وقد يكمن التفسير البديهي للارتباط بين الأشخاص من ذوي الضمير الحي وصحتهم الأفضل، في وجود عادات صحية سليمة لديهم. وقادت بعض الدراسات إلى مثل هذا الاستنتاج، إذ ظهر أن الأشخاص من ذوي الضمائر الحية يميلون إلى الالتزام بالعادات الصحية في الطعام والنوم والعمل. ويمكن أن يدمر التوتر الصحة، وبمقدور الشخصية ذات الضمير الحي أن تتفادى الوقوع فيه، بينما تنجذب الشخصية العصابية نحوه. كما أن الشخصية ذات الضمير الحي قد تكون ناجحة في بلورة خياراتها المهنية وصداقاتها واستقرار الزواج وكثير من جوانب الحياة الأخرى التي تؤثر في الصحة والعمر.
ومع احترامنا للمراكز البحثية العالمية ولعلماء جامعة هارفارد التي تحتل قمة الجامعات الرصينة في العالم، فإن الموضوع يثير تساؤلات كثيرة من بينها: هل أدى ازدياد الأمراض إلى زيادة في أعداد أصحاب الضمائر الميتة؟ وهناك من يتساءل: كيف انقلبت هذه النظرية في العالم العربي وصار أصحاب الضمائر الحية هم المصابين بالكآبة والضغط والسكري والقلب، بينما أصحاب الضمائر الميتة في صحة جيدة ويسومون الناس سوء العذاب في مهن تتصل بحياة الناس مثل بعض التجار والمقاولين والمصلحين والسباكين والكهربائيين وكثير من السياسيين؟
والآن، ما هو الضمير؟ يقول الروائي الفرنسي فيكتور هوغو: «الضمير هو حضور الله في الإنسان، ويقظة الضمير من سباته هي عظمة في الروح ومجد وخلود، وأنا لا أطلب إلا عفواً واحداً هو عفو ضميري عني». ويتفق آخرون على أن الضمير هو قدرة الإنسان على التمييز بين الخطأ والصواب، بين الباطل والحق، وهو الذي يؤدي إلى الشعور بالندم عندما تتعارض الأشياء التي يفعلها الفرد مع قيمه الأخلاقية، وإلى الشعور بالاستقامة والنزاهة عندما تتفق الأفعال مع القيم. مع التأكيد على أن الضمير ليس صفة وراثية في الطبيعة، إنما يحدده وضع الإنسان في المجتمع وظروف حياته وتربيته.
في أغنية «القدس العتيقة» تقول جارة القمر فيروز:
«خَلّي الغنية تصير... عواصف وهدير/ يا صوتي ظَلّك طاير... زوبع بهالضماير/ خَبّرهن عللي صاير... بلكي بيوعى الضمير». هل حقاً ما يقوله كثيرون في قعدات المقاهي وطوابير أي حاجة: ناس ما لهاش ضمير؟!