سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

قمة من أجل فكرة في دبي

أعتقد كثيراً في جدوى فكرة التراكم على مستوى الدول، والحكومات، والأفراد، وأعتقد أيضاً في أن حضورها عن اقتناع وإيمان، كفيل بدفع الكيان الذي يستحضرها، من خانة إلى خانة في مسيرته، سواء كان هذا الكيان دولة تحتضن أرضاً وشعباً، أو كان حكومة تجلس على مقاعد الحكم والمسؤولية، أو كان فرداً من آحاد الناس يريد لخطواته أن تكتمل على ما يرضاه. وأظن أنها فكرة قادرة على بناء الشعوب بالشكل الصحيح، وأتصور أن الحكومة التي تلتفت إلى جدوى هذه الفكرة، في لحظة من لحظات عملها، إنما تضع قدميها في اللحظة ذاتها على الطريق الذي يصلها بالمستقبل!
إن نقيض فكرة التراكم هو البدء من جديد في كل مرة، والعودة في كل مرة إلى المربع الأول، وكأن إنساناً لم يمر يوماً من هنا، تاركاً وراءه حصيلة من التجربة الغنية بالمحاولات المليئة بالنجاحات والإخفاقات، وهذا شيء من شأنه أن يستهلك الوقت، وأن يهدر الجهد، وأن يبدد رصيد التجربة في حياة أي شعب، مع أنه الرصيد الأعلى والأغلى بطبيعته لدى البشر!
وكان أحمد بهاء الدين قد أشار في مقدمة كتابه «أيام لها تاريخ» إلى قصة التجربة مع الإنسان على أوضح ما يكون، وكان تقديره أن رصيد التجربة في حياة كل إنسان هو الشيء الوحيد تقريباً الذي يميزه عن الحيوان، وأن الدليل على ذلك أن آخر فأر على وجه الأرض سوف يجري اصطياده بالطريقة نفسها التي تم بها اصطياد أول فأر في أي مكان، وأن وضعاً كهذا ليس قائماً في حالة الإنسان، وأن ذلك راجع إلى رصيد التجربة لديه، ثم إلى قيمتها في الحياه الإنسانية عموماً، وقدرة كل جيل على أن يأخذ منها، ويوظفها، ويجعلها وقوداً يتجدد في كل صباح بأسباب الحياة!
وربما تكون قمة الحكومات التي أنهت أعمالها في دبي هذا الأسبوع، هي الأقرب إلى تجسيد هذه المعاني كلها، من حيث الشكل ومن حيث المضمون معاً. إنها تنعقد في هذا الموعد من كل سنة، على مدى سبع دورات مضت، وفي المكان نفسه أيضاً، ولم يحدث أن أخلفت موعدها مع متابعيها، ولا مكانها، حتى صارت من معالم فبراير (شباط) كلما دار العام دورته واستدار!
وهي لا تدعو ممثلي الحكومات من أنحاء الأرض ليتكلموا ويتحدثوا ويتبادلوا الكلمات والتحيات ثم ينصرف ممثل كل حكومة إلى حيث جاء وفقط، فليس هذا هو الهدف، ولكن الهدف أن يأتي كل واحد منهم ومعه تجربته في بلده، وأن يجلس ليعرضها أمام باقي الممثلين، وأن يفعل هؤلاء الممثلون الشيء نفسه، وأن يعودوا في النهاية وقد عرفوا أن في الدنيا تجارب أخرى مختلفة، وأنها ناجحة، وأن هدفها الإنسان، وأن نقلها من أرضها إلى خارجها أمانة في أعناق الذين سمعوا بها، واستمعوا إلى تفاصيلها، ووقفوا على دقائقها، ووجدوا فيها ما يمكن أن يجعل حياة مواطنيهم أسهل، وأقرب لكل ما هو آدمي في حلقاتها اليومية، وأدعى في المجمل إلى تحقيق السعادة باعتبارها غاية في حياتك وحياتي!
ومن الواضح أن القائمين على أمر القمة يدركون أن تجربة الحكومة الناجحة في أي دولة، هي بحكم عصر الاتصالات المتطورة الذي نعيشه، ملك لكل حكومة أخرى، وأن الدعوة إلى انعقاد القمة الحكومية في موعدها الثابت، ليس من أجل نقل هذه التجربة الناجحة إلى حكومة الإمارات وحدها، ولا إلى الحكومات في المنطقة من حول الإمارات دون سواها، وإنما إلى حكومات الأرض على اتساعها، لأن الإنسان من حيث هو إنسان هو الهدف الأخير، بصرف النظر عن جنسيته، أو لونه، أو دينه، أو كل ما يجعل إنساناً مختلفاً عن إنسان، ولأنه يستحق أن تقدم له حكومته الخدمات العامة التي ينتظرها منها، وبمستوى من الجودة تتيحها تكنولوجيا العصر وأدواته. فهذه التكنولوجيا المتسارعة، وتلك الأدوات المتجددة دوماً، إذا لم تساعد في إتاحة الخدمات الحكومية بالصورة الأمثل، فسوف تتيحها بالصورة الأفضل على الأقل... وهذا في حد ذاته يكفي، لأن كل دورة سوف تحمل بحكم طبائع الأشياء ما هو أفضل مما كان في الدورة التي سبقتها!
وعندي مثال حي على صدق ما أقول... ففي العام الماضي كانت سيري مولياني وزيرة المالية في إندونيسيا، قد تسلمت جائزتها من الشيخ محمد بن راشد، حاكم دبي وراعي القمة، وكانت مولياني تتسلم الجائزة باعتبارها أفضل وزيرة في العالم، وكانت أفضليتها التي جعلتها أهلاً للجائزة هي أفضلية على كل وزراء الحكومات في شتى الدول، وليس على وزراء المالية وحدهم، وكانت قد جاءت لتقول إن لديها تجربة في العمل الحكومي الإيجابي، وفي تخفيف حدة الفقر عن الناس، وأن تجربتها صارت بعد الجائزة متاحة لكل حكومة خارج إندونيسيا يمكن أن تجد فيها فائدة لمواطنيها الفقراء!
وكانت الأسباب التي دعت إلى منحها الجائزة كثيرة ومتنوعة، ولكن السبب الأهم الذي دعا اللجنة المختصة إلى منحها جائزة أحسن وزير أنها اتبعت سياسات حكومية في منصبها أدت إلى توفير الكثير من فرص العمل، وكان مجيئها إلى قمة حكومات دبي ثم حديثها من فوق المنصة عن الطريقة التي جعلتها قادرة على توفير فرص عمل بأعداد كبيرة، معناه إهداء تجربتها العملية في كيفية توفير فرص العمل إلى كل حكومة مدعوة إلى أعمال القمة وبالمجان!
وكان المعنى غير المباشر أن كل وزير مدعو حضر واستمع سوف يبدأ من حيث انتهت الوزيرة مولياني، وليس من عند الصفر، وهذا هو التجسيد الحي لفكرة التراكم عالمياً، وليس في داخل الدولة الواحدة، والشيء نفسه حدث هذا العام مع وزير الصحة في أفغانستان، الدكتور فيروز الدين فيروز، الذي عاش يتبنى مشروعاً للقضاء على شلل الأطفال في بلاده، ويسعى إلى خفض معدل وفيات الأطفال والأمهات، ويضع استراتيجية طويلة الأمد للصحة، ثم ينجح في مسعاه!
ولا يختلف الأمر مع وزيرة الصحة في السنغال، التي قادت حملة شجاعة في بلادها لدفع خطر مرض الإيبولا عن ملايين السنغاليين، ففازت بالجائزة في 2017، وكذلك وزير البيئة في أستراليا الذي فاز بها في دورة سابقة، عن قدرته على إتاحة بيئة أنسب للإنسان. إنها تجارب وطنية أربع تقول إن التراكم فكرة يمكن أن تختصر الكثير من خطوات الطريق على الشعوب، بمثل ما تختصرها على الأفراد سواءً بسواء، وأن قمة حكومات دبي تتولى ترسيخ هذا المعنى بعمق عاماً تلو آخر!