إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

القاتل المجهول

تتوسط أروقة معرض بغداد الدولي للكتاب منحوتات جميلة لأشخاص ورقيين بيض يقف كل منهم على كدسة كتب. ترى وجوههم مموهة دون ملامح ورؤوسهم مُكعبة. لا أدري لماذا استدعى منظرهم صورة ذلك السجين العراقي لدى الأميركيين في سجن أبي غريب، يقف على صفيحة من تنك ورأسه يختفي وراء كيس مستطيل. هل أصبح المثقف حبيس حلقات تمتلك سطوتها على الأرض وتهدده إذا اتضحت معالم أفكاره، لا بالكلام والكتابة، بل بالهمس والتأفف؟
طلب وزير الثقافة إطلاق اسم علاء مشذوب على الدورة الحالية من معرض الكتاب. ومشذوب هو الروائي والفنان الأكاديمي الذي اغتيل قبل أيام من افتتاح المعرض. كان يقود دراجته الهوائية عائداً إلى داره من أمسية ثقافية في كربلاء. خرج له من خَرَم جسده بالرصاص. تداعى تحت الدراجة وتدحرجت طاقيته وسال دمه على القارعة. لم يكن القتلة في حاجة لاستخدام سلاح كاتم للصوت. إن الجريمة تسعى للإعلان عن نفسها بالحسّ العالي. تهلل طرباً وتشفياً. لا تُنذر ولا تعذر.
من شعارات المعرض «كتاب واحد أكثر من حياة». والصحيح أيضاً أن كتاباً واحداً يمكن أن يكون أكثر من موت. وهناك شعار آخر، «نقرأ لنرتقي». ماذا قرأ المسلحون ليتدهوروا إلى هذا الدرك؟ وقد افتتح رئيس الجمهورية معرض الكتاب واقتنى كتباً وروايات. وكان قبل ذلك قد دشّن عهده بالتجول مع قرينته في شارع المتنبي، ملتقى الكتبيين وأهل الثقافة. تحدث عن حرية التعبير التي يكفلها الدستور، وعن تجاوز الرقابة على الفكر، وعن السلام وكرامة الإنسان، وعن حسن التعايش ما بين البشر. واستنكر الرئيس، بأسف شديد، اغتيال الدكتور علاء مشذوب ووعد بكشف الجناة والقبض عليهم. والاستنكار جميل والنوايا لطيفة. لكن «القبض عليهم» قضية أخرى.
تعليقاً على جريمة الاغتيال، كتبت سلوى زكو، أن المثقف هو الخاصرة الرخوة في المشهد العراقي. قالت إن اغتياله في وضح النهار يُحدث الدوي المطلوب، واستهدافه سهل لأنه لا يستظل بخيمة حماية، ومقتله مجاني لا يُحرّك حكومة ولا مرجعية سياسية ولا عشيرة. وضعت الصحافية ذات التاريخ النضالي النقاط فوق الحروف الصماء. لكننا نتحمس ونبرد. «نفور فورة ونستوي». وأقرأ في ديوان الشاعر الشاب كاظم خنجر: «نحن العراقيين نطلق النار عندما يموت أحدنا حتى نقتل الآخر- نحن العراقيين، يومياً على الفطور تضع أمهاتنا لنا الطائفية في الصحون - نأكل منها حتى نبلع أفواهنا - نحن العراقيين، التابوت بأطرافه القصيرة يُوحّد أكتافنا».
راح زملاء مشذوب يتداولون الفرضيات التي بررت إسكاته. جدل وسؤال يحمل جوابه. لم تتعدد الأسباب والموت واحد. وخلال السنوات الماضية تعرض مثقفون بارزون وعشرات الصحافيين والمئات من أساتذة الجامعات لمقتلة منظمة. إن الجاني موصوف لكنه فوق المساءلة. وتضج الجرائد، كل يوم، وقنوات التلفزيون ومواقع التواصل والتقارير الدولية بالحديث عن الفساد الذي فاق الخيال. وجبال الكلام لا تحرّك شعرة في مفرق مرتشٍ. والقاتل معلوم يسرح طليقاً وليست هناك قضايا، أصلاً، لتقيّد ضد مجهول.
في بغداد، كان هناك نصب للجندي العراقي المجهول يتوسط ساحة الفردوس. ثم أزيل القوس الرخامي الجميل الذي صممه المعمار رفعة الجادرجي وصنعوا نصباً أكثر أبهة للجندي المجهول، من تصميم النحات خالد الرحال. وحتى هذا النصب الثاني وجد من يعترض عليه، وكذلك على صرح الشهيد. ودعا بعضهم إلى هدم القبة الفيروزية العملاقة التي صممها الفنان إسماعيل فتاح الترك. فالشهيد هو من فقد حياته في الحرب مع إيران. وإيران خط أحمر. لماذا لا يكون لدينا تمثال للقاتل العراقي المجهول؟