حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

أثمان اليأس واللامبالاة

تعرضت الحكومة التي أعلن تشكيلتها رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، الأسبوع الماضي، لانتقادات قاسية واتهامات تبدأ من اعتبارها حكومة القضاء على اتفاق الطائف الذي أُعيد تأسيس النظام السياسي اللبناني في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية على أساسه، وصولاً إلى وصف الحكومة الجديدة بأنها حكومة «حزب الله» يديرها كما يشاء بواسطة عدد من مؤيديه وحلفائه الذين تبوأوا المقاعد الأساسية فيها.
الانتقادات والاتهامات والتلويح بظهور معارضة جديدة تواجه هذه الحكومة قليل الأهمية في واقع الأمر؛ ليس لأن مجلس الوزراء الجديد يعكس موازين القوى الداخلية والإقليمية المختلة لمصلحة محور «الممانعة والمقاومة» فحسب، بل أيضاً لأن المنتقدين والمتهمين لا يملكون أدنى تصور للكيفية التي يسعهم فيها إدارة بلد يقيم على شفير هاوية الانهيار الاقتصادي والانقسام الأهلي - السياسي إقامة مديدة.
لقائل أن يقول: إنه ليس لدى الفريق المنتصر في النزال بين الأطراف اللبنانية – «حزب الله» وأتباعه - فكرة عن المستقبل الذي ينبغي أن يسير إليه لبنان وعن العلاجات الضرورية لخروجه من وضعه الحالي المتجه إلى المزيد من التفكك والتصدع والفقر بينما يتحول الفساد والسطو على المال العام وقمع الحريات إلى ممارسات يومية لدى الائتلاف الحاكم.
ثمة خطأ جسيم في هذا القول، ذلك أن لدى «الممانعة والمقاومة» تصوراً قريباً من التكامل لما يجب أن يكون عليه الوضع في البلد الصغير. خلاصة التصور هذا أن لبنان قد خرج نهائياً من دائرة الصراع الإقليمي بين دول الخليج وبين إيران وأنه بات قاعدة متقدمة للمشروع الاستراتيجي الإيراني. وجاءت هزيمة الثورة السورية لتكرس هذا التصور ولتنقل لبنان من حالة إلى حالة. فهو لم يعد ساحة مواجهة بين مشروعين أو تصورين، بل صار مكسباً إيرانياً صافياً، لا يحتل فيه بعض الشكليات من نوع بعض الحريات العامة وعدد من الأصوات السياسية والإعلامية المعترضة على المسار الحالي للأمور، مساحة حقيقية في الحيز الذي تُصنع فيه السياسات والقرارات.
دور لبنان، بحكومته واقتصاده وشعبه، هو حماية ظهر «المقاومة». منع الانهيار الاقتصادي، وتحسين صلات لبنان الخارجية، والحيلولة دون وقوع انفجارات أمنية كبيرة، مطلوبة بطبيعة الحال، ولكن ليس لذاتها ولا لمعناها في سبيل الحفاظ على السلم الأهلي اللبناني. بل هي مطلوبة من أجل أن يتفرغ حلفاء المقاومة إلى الصراع مع إسرائيل. طبيعة هذا الصراع ونتيجته ومحتواه شؤون قد لا يدركها اللبنانيون، وهي في نهاية المطاف تتعلق بمصالح أكبر من هذا البلد وأخطر من أن تُترك للاعبين ثانويين همهم الأول والأخير هو تحصيل المال والسلطة ولو على تل من الأنقاض.
المشكلة الكبيرة التي يواجهها اللبنانيون الرافضون لهذين الواقع والمسار، تكمن في عجزهم عن تقديم مشروع بديل قادر على حشد جمهور يشعر بالقلق على مصالحه المباشرة وعلى مستقبله.
لقد أقنع «التيار الوطني الحرّ» (العوني) قسماً كبيراً من المسيحيين اللبنانيين بأن مصلحتهم تكمن في التخلص من اتفاق الطائف، وبأن التفاهم مع «حزب الله» لا يشكّل خطراً عليهم لأن الحزب مهما بلغت قوته لا يملك امتداداً عربياً حقيقياً. وبذلك يجوز الحديث عن نسخة منقحة من «المارونية السياسية» تعيد المسيحيين إلى موقع الهيمنة الكاملة بالاستناد إلى سطوة الحزب وسلاحه. في المقابل، لا يفصح المعترضون على انبعاث «المارونية السياسية» المحمية بسلاح «المقاومة» عما يريدون من مواطنيهم ولا كيف ينظرون إلى بلدهم بسبب الأرضية الطائفية المشتركة للمصالح والأفكار والثقافة التي يستند كل الفاعلين السياسيين إليها على الرغم من إفلاسها الذي يشهد عليه التدهور المريع لأوضاع لبنان.
يفضي ذلك إلى تحويل الحياة السياسية في البلاد إلى تجاذب بين خصوم متشابهين، حيث لا يصح أي حديث جدّي عن رؤية أيٍّ منهم إلى الوطن والدولة والسياسة والاقتصاد والحريات بل إلى مبرر وجود هذا الكيان المسمَّى لبنان.
وليس غياب المشروع المقابل لهيمنة «الممانعة» وأنصارها على لبنان بصدفة أو وليد سوء حظ فاقمه التخلي العربي عن وطننا، بل هو في صميمه علامة على أزمة طاحنة تجتاح المجتمع اللبناني وتَحول دون تمركزه حول وعي لمصالحه الأكثر بداهة كحقوقه الأساسية في الحياة الكريمة (وهذه ليست منةً من أحد)، وبالتالي تشكيله الأدوات النقابية والمدنية ثم السياسية لتحصيل هذه الحقوق والدفاع عنها.
يراقب الكثير من المواطنين الطريق الذي تمضي بلادهم فيه بلا مبالاة ويأس عميقين على أمل أن يأتي التغيير من مكان ما: من «صحوة ضمير» المسؤولين، من هبّة شعبية، من شقيق عربي، ربما. بيد أن هذه كلها أضغاث أوهام لن تنقلب إلى واقع ما لم يقتنع اللبنانيون بأنهم هم من يجب أن ينقذ نفسه بنفسه.