يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

أزمات في الديمقراطية وفرص لدول الرفاه والاستقرار

الديمقراطية الليبرالية تعيش أزمة كبيرة على مستوى إقناع النخب غير المسيسة في العالم الأول، وبالتالي تعيش أزمة مضاعفة في بقية العالم، لا على مستوى القيم الأساسية؛ العدالة والمواطنة وحقوق الإنسان، بل على مستوى قدرتها على تمثيل أصوات كل الناخبين، أو تحقيق مجتمعات رفاه قائمة على أولوية الاستقرار والأمن، وضبط الفوضى السياسية التي تفاقمت بسبب ثورة المعلومات والتواصلية الهائلة التي تقوم على الكم لا الكيف والموقف وليس المحتوى.
ربط هذا التراجع أو صعود الشعبوية بصعود ترمب هو اختزال مخل، كما أن الدوران في فلك أطروحة فوكوياما التي يجب اليوم نعيها، كما نعينا من قبل حتمية العنف الثوري في تجربة الشيوعية، أو حتمية الحل الإسلامي لدى الإسلام السياسي، أو مفهوم الخلافة الذي انتقل من النوستالجيا الإسلاموية لدى تيارات كثيرة متباينة الموقف لتصبح مشروعاً لنموذجين؛ الأول نموذج جماعات العنف المسلح التي أنتجت وهم خلافة «داعش»، أو محاولة إسقاط نجاح تجربة الأحزاب السياسية في بيئة علمانية كخطوة لتمهيد عودة الخلافة مجدداً كما هو الحال في تقييم تجربة حزب العدالة والتنمية الذي يكرس طائفية سياسية حادة ضد الأكراد ويرفع شعارات عودة العثمانية، وتشايعه في ذلك دول ومنصات إعلام وشخصيات بارزة وقعوا في تلك النوستالجيا، لكنهم لا يريدون الوقوع في فخ دعم مشروع العنف المسلح وتجربة تنظيم داعش وإنتاج إدارة التوحش التي باتت نازية إسلاموية حديثة.
الأكيد أن الإيمان المطلق بالديمقراطية الأداة اليوم في أسوأ حالته، ولا أعني هنا ديمقرطيات الظل الشكلانية في الدول العربية، بل حتى تلك التجارب الديمقراطية التي فشلت في تحقيق الحد الأدنى من كرامة العيش لمواطنيها، وبات الحنين في عدد من البلدان غير المتورطة بشعارات دينية كدول أميركا الجنوبية، ومنها البرازيل والأرجنتين وفنزويلا وغيرها... تلك الدول لا ترى في الديمقراطية خلاصاً كما كان يروج لها أو حتمية تاريخية، حسب فوكوياما، بل باتوا يقدمون أولوية الأمن والاستقرار وصولاً إلى دعم حكم العسكر، وهو الحال بالدول التي تعد وليدة في التجربة الديمقراطية كروسيا، لكنها اختارت الشكلانية منها لإعادة الهيمنة للحزب الذي انتقل من الحزب الثوري إلى الحزب المنتخب أبداً بحكم ضعف أو عدم وجود نخبة سياسية منافسة.
الأكيد أن الأسباب تتعدد، لكني أرى أن من أهم الأسباب التي نغفل عن إعادة قراءتها والاستفادة منها هي التجربة الصينية الأكثر إلحاحاً على طرح الأسئلة بسبب نجاحاتها على جدوى الديمقراطية الشكلانية، أو تحديات التطور والنقد الذاتي للديمقراطية العريقة مثل الجدل حول «بريكست» بريطانيا، وصعود «السترات الصفر» في فرنسا، واليمين الهوياتي وليس المتطرف لأنه حكم قيمي وليس سياسياً.
إلغاء الصين لتحديد فترة سنوات الرئاسة، وصعود إدارة ترمب التي تنجح في تحقيق وعودها الاقتصادية من خلال تكسير مسلمات الديمقراطية الليبرالية، وأبرزها نقد حرية الصحافة باعتبارها غير مسؤولة ومخترقة، أو كما في الحالة الفرنسية إخفاق النخب السياسية والحكومة في تحقيق مطالب الناخبين وليس طموحات من يمثلونهم من السياسيين الانتهازيين، عدا عن عجزها عن تحقيق نمو اقتصادي حقيقي خصوصاً بعد نكسة 2008.
السؤال اليوم كيف يمكن لدول الخليج، وعلى رأسها المملكة، الاستفادة من ذلك الانفصال بين القيم والشعارات الديمقراطية والحقوقية لتعزيز موقفها وتجربتها في إنتاج مجتمعات رفاه واستقرار سياسي مدعوم بسياسات أمن حازمة، لا سيما مع صعود تجربة الصين يوماً تلو آخر، حيث تقول لنا مؤشرات الممارسة الديمقراطية، حسب مؤسسة «الإيكونوميست» ووفق تقرير الوحدة الاستخباراتية، أنه من عام 2017 وما بعدها هناك تراجع وانحدار ديمقراطي على مستوى المفاهيم والممارسة، حيث تراجعت الديمقراطية، حسب التقرير في 27 تجربة في العالم.
درس التعامل مع أزمة فنزويلا وتفكير الاتحاد الأوروبي بإيجاد صيغة لإعادة الحيوية المالية والاستثمارية مع إيران، والتلويح بمناسبة وبغير مناسبة بغفران سياسي للنظام يقول لنا إن العبرة بالمآلات ويقول لهم «الشيطان في التفاصيل».