عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

ترمب وامتحان الديمقراطية الأميركية

في مؤشر «مدركات الفساد» الصادر أول من أمس عن منظمة الشفافية الدولية، كان لافتا تراجع مركز الولايات المتحدة وخروجها لأول مرة منذ سنوات من قائمة مجموعة الدول العشرين التي تتصدر المؤشر. وأشارت المنظمة في تفسيرها لهذا التراجع إلى أنه يأتي في وقت تشهد فيه أميركا «مخاطر تهدد منظومتها القائمة على الضوابط والتوازنات، وتدهور المعايير الأخلاقية في أعلى مستويات السلطة».
وفيما بدا انتقادا صريحا لبعض الدول الأوروبية مثل المجر، وللرئيس دونالد ترمب، أشارت ديليا فيريرا روبيو رئيسة منظمة الشفافية الدولية إلى «تهديد المؤسسات الديمقراطية على يد قيادات ذات توجه استبدادي أو شعبوي». وتحدثت كذلك عن الهجمة على وسائل الإعلام وتأثير ذلك على عملها، ومحاولات تقويض الضوابط والتوازنات الديمقراطية.
هذا الرأي يتفق معه كثيرون في أميركا منهم بعض المسؤولين السابقين وعدد من الأكاديميين ممن يرون أن الديمقراطية الأميركية ومؤسساتها تتعرض لاختبار كبير في ظل رئاسة ترمب، وأسلوبه في تسيير الأمور، وعلاقته المتوترة مع الكونغرس ومع الإعلام، وانتقاداته للقضاء، وتغريداته الجدلية التي يرسم بها سياسات يفاجئ بها حتى أركان إدارته مما أثار كثيرا من الاحتكاكات داخل إدارته وأدى لاستقالة أو إقالة عدد من كبار المسؤولين. واستنادا إلى بحث أجراه معهد بروكينغز فإن 65 في المائة من كبار المسؤولين والمستشارين غادروا البيت الأبيض خلال أول عامين من عمر الإدارة الحالية بسبب عدم التوافق بينهم وبين ترمب، سواء في السياسات أو في كيفية تسيير الأمور، أو حتى بسبب المزاجية والحدة في التعامل من جانب الرئيس.
التراجع في مركز الولايات المتحدة في مؤشر «مدركات الفساد» يعكس حجم الأزمة السياسية الداخلية في ظل التوتر الشديد الذي يحيط بإدارة ترمب منذ يومها الأول في السلطة، والذي يتوقع أن يزداد حدة في الفترة المقبلة. فمع تولي الديمقراطيين رئاسة مجلس النواب الذي باتت لهم الأغلبية فيه، تستعد إدارة ترمب لأيام صعبة تتخللها سلسلة من المواجهات والتحقيقات التي قد تشل الإدارة في فترة تبدأ فيها الاستعدادات المبكرة لانتخابات الرئاسة في 2020. أولى المعارك بين الديمقراطيين في الكونغرس وترمب قادت إلى أطول إغلاق جزئي للحكومة الفيدرالية في تاريخ أميركا، الذي انتهى يوم الجمعة الماضي بشكل مؤقت، بينما يستمر الخلاف حول التمويل الذي يطالب به الرئيس للجدار الذي تعهد ببنائه على طول الحدود مع المكسيك وجعله شعارا رئيسيا لحملة انتخابه. فإعادة فتح الحكومة الفيدرالية ربما سمحت بترتيب موعد جديد لخطاب حال الاتحاد «المؤجل» الذي سيلقيه ترمب أمام جلسة مشتركة للكونغرس يوم الثلاثاء المقبل، بعد تأجيل قسري لمدة أسبوع فرضته رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، لكن هناك ما يشبه الإجماع على أن الهدنة مؤقتة وأن المعركة حول تمويل الجدار ستستمر.
ترمب يشترط تضمين الميزانية مبلغ 5.7 مليار دولار لتمويل الجدار، وهو ما يرفضه تماما الديمقراطيون على أساس أن هناك طرقا أخرى أكثر فاعلية لحماية الحدود والأمن القومي. وما لم يتم التوصل إلى حل وسط سحري فإن الإغلاق الجزئي للحكومة الفيدرالية سيتجدد بنهاية المهلة المحددة بتاريخ 15 فبراير (شباط) المقبل. الحل الآخر هو أن يلجأ ترمب إلى اعتبار الجدار حالة طوارئ وطنية، بما يمنحه السلطة لسحب المبلغ من بنود أخرى في الإنفاق الحكومي من دون الحاجة إلى موافقة الكونغرس.
بغض النظر عما سيفعله الرئيس، فإن استطلاعات الرأي تشير إلى أن أزمة إغلاق الحكومة أضرت به، وأسهمت مع عوامل أخرى في تراجع شعبيته، مثلما هزت صورة المؤسسات السياسية بشكل أكبر وسط الناخبين المتذمرين. ووفقا لمسح من مؤسسة غالوب، تعتبر شعبية ترمب في هذه الفترة التي توافق مرور عامين على رئاسته، الأدنى مقارنة بكل من باراك أوباما وجورج بوش الابن وبل كلينتون وجورج بوش الأب، إذ حصل على 37 في المائة مقابل 50 في المائة لأوباما و58 في المائة لبوش الابن، و47 في المائة لكلينتون، و64 في المائة لبوش الأب. صحيح أنه ما يزال يتمتع بتأييد واسع وسط قاعدته الجمهورية، لكن هذا لن يكون كافيا لتحقيق حلمه في فترة رئاسية ثانية في ظل التحديات التي تواجهه في الفترة المتبقية على رئاسته؛ وأخطرها نتائج تحقيقات مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأسبق روبرت مولر بشأن التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016، وما إذا كانت حملة ترمب متورطة من خلال أي تعاون أو تنسيق مع الروس للاستفادة من ذلك التدخل الذي أجمعت كل أجهزة الأمن والاستخبارات الأميركية على حدوثه.
هناك عدة مؤشرات على أن تحقيقات مولر شارفت على الانتهاء، منها تصريحات وزير العدل بالإنابة ماثيو ويتيكر مطلع الأسبوع الحالي التي قال فيها إن مولر قدم له إحاطة كاملة بشأن التحقيقات، وإنه يتطلع إلى تسلم التقرير النهائي في أقرب وقت ممكن. وسائل الإعلام الأميركية تكهنت أيضا بأن أعمال لجنة مولر تشارف على الانتهاء بعدما وجهت اتهامات إلى أكثر من 37 شخصا وهيئة، أقر 7 منهم بالتهم الموجهة إليهم، وحكم على أربعة بالسجن، منهم شخصيات كانت قريبة من ترمب وحملته مثل بول مانافورت والمحامي مايكل كوهين. وشملت الاتهامات مؤخرا واحدا من أقرب مستشاري ترمب الشخصيين وهو روجر ستون الذي زعم اثنان من أعوانه خلال التحقيقات معهما أنه تعاون مع جوليان أسانج مؤسس ويكيليكس في التسريبات التي استهدفت المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون إبان معركة انتخابات الرئاسة الماضية.
الطريقة التي عمل بها مولر توحي بأنه نسج الشباك حول ترمب قبل رفع تقريره النهائي الذي سيكون حاسما لمستقبل الرئيس وطموحاته لفترة رئاسية ثانية. الديمقراطيون أيضا يعدون العدة لفتح تحقيقات تتعلق بالشؤون المالية والضرائبية لترمب، وهو ما سيزيد من حالة الحصار على البيت الأبيض في عام يبدو أنه سيكون حافلا بالتحديات لأميركا ومؤسساتها الديمقراطية، وبالأخص للرجل الذي قال في واحدة من تجلياته إنه قد يكون أفضل رئيس شغل المنصب باستثناء أبراهام لينكولن!!