فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

عبد الله السعودي... وتوأمه اللبناني

لعلها من المصادفات النادرة أن يكون هنالك في الفضاء التنويري والثقافي والفني السينمائي توأمان، ليس لجهة السن، وإنما لطبيعة التوجه الوطني وخوْض غمار التجربة سينمائياً بما يعكس وجعاً في الكيان العائلي وجرحاً غائراً في الضمير. ولقد شاءت الظروف أن أكون صديقاً للاثنيْن على مدى ربع قرن. صديقٌ رحل وصديقٌ أتمنى له طول العمر والمزيد من العطاء.
التوأم الذي أُشير إليه هو المخرج اللبناني جورج نصر الذي رحل عن 92 عاماً يوم الأربعاء 23 يناير (كانون الثاني) 2019، والمخرج السعودي عبد الله المحيسن الذي نتطلع كعرب من المحيط إلى الخليج إلى المزيد من عطاءاته وتحويل ما في أجندة أحلامه الواقعية إلى أعمال جديدة تندرج في لائحة التألق السعودي، وبالذات الشريطان الأمثولتان «الصدمة» بعد «اغتيال مدينة»، اللذان كانا مثل قرْع أجراس برسْم أُولي الأمر في دول الأمة... كما برسْم الشعوب التي لطالما كابدت من أمزجة المغامرين بأقدار البلاد والعباد.
وضعَ جورج نصر للعشرات من المخرجين اللبنانيين لأعمال على الشاشتيْن، السينمائية والتلفزيونية، حجر الأساس متوكلاً على الله وعلى عزيمة مقرونة بتخصُص أكاديمي درس في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس العاصمة الهوليوودية التي تُبهر، ثم أَضاف إلى الدراسة فترة من التدريب؛ الأمر الذي زاده خبرة وثقة بالنفس. ولأنه من لبنان الفرنسي الهوى كان لا بد من أن يقرن الدرس الهوليوودي ببريق السينما الفرنسية المتأثرة بالسينما البريطانية والسينما الإيطالية.
لم يجد مَن يحقق له مبتغاه في ترجمة تخصصاته المقرونة بمعرفة هندسية نتيجة دراسة أولية، إلى تمويل أفلام يتطلع إلى إخراجها. ولقد آلمه أن رد فعل أحد المقتدرين الذي طلب منه تمويل إنتاج فيلم حول قضية مجتمعية ووطنية، كان أن مثل هذا الأمر خسارة بخسارة ذلك أن الناس عموماً يفضلون أفلاماً حافلة بالرقص والطرب. لكنه بقي مصراً على أن تكون إطلالته الأُولى الفيلم الذي يحفر في الذاكرة. ولقد غامر واستعمل وسائل بدائية لإنجاز الفيلم الذي عندما عُرض أبكى مضمونه المشاهدين؛ ذلك أن الفيلم هو «إلى أين» يعالج مأساة الهجرة المتواصلة من جانب أفراد لبنانيين إلى الأميركتيْن: الشمالية والجنوبية. وكأنما فيما أصر عليه كان جورج نصر يقرأ فيما يخبئه المستقبل من أحداث، لعل أهمها كثافة الهجرة التي لم تعد حكراً على اللبنانيين الذين أضافوا دولاً أفريقية إلى مشاريع الهجرة، وتتزايد أرقامها في الزمن الحالي نتيجة الحروب على مد النظر العربي والأفريقي.
كان فيلم «إلى أين» صرخة أرادها جورج نصر أن تخترق لامبالاة أُولي الأمر في لبنان لا أن تكون صرخة في واد. ومضمون هذه الصرخة أنه من دون اعتماد الرأي السديد في إدارة شؤون الدولة والبلد عموماً قد يأتي يوم يصبح عدد أهل البلد - وهو هنا لبنان - الذين يهاجرون متساوياً مع عدد الباقين. وقد يصبح لبنان بلد الشيخوخة في حال استمرت الأجيال الشابة ما أن تتخرج في الجامعات حتى تسرع الخطى إلى بعض القنصليات للحصول على استمارة طلب الهجرة. كما قد يصبح عدد النازحين واللاجئين «المستوطنين» لبنان قريباً من عدد السكان المحليين، هذا بافتراض أن «استيطان» هؤلاء النازحين واللاجئين سيتحول إلى أمر واقع وبطاقات هوية وجوازات سفر. وهنا ينطبق سؤال «إلى أين» حول الهجرة كما في فيلم جورج نصر إلى سؤال حول المصير كوطن.
لم يُكتب لطموح جورج نصر بلوغ منتهاه. وكان موعوداً في ضوء مسعى قمتُ به بدافع الصداقة التي ربطت بيني وبينه كمخرج، لدى القطب السياسي إميل بستاني الذي يترأس شركة «كات» أكبر شركات المقاولات في الخمسينات والستينات وكنتُ من بين أصدقائه.
وخلاصة المسعى، أن يتبنى إنتاج المزيد من أعمال يتطلع جورج نصر إلى إخراجها وكلها حول قضايا ذات بُعد وطني وبروحية فيلمه الأول «إلى أين». وفي اعتقادي أن إميل بستاني كان سيتجاوب، لولا أن الأقدار سارت على غير ما يتمناه الأمر؛ ذلك أن طائرته الصغيرة الخاصة هوت في بحر بيروت وفقد لبنان قطباً مارونياً من النسيج نفسه الذي هو عليه رفيق الحريري الذي فجّروا موكبه في بقعة من الشاطئ نفسه الذي سبق أن هوت في مياه بحره الطائرة البستانية. كلاهما من القامات السياسية التي لو كُتبت لها بقية الحياة أن يحققا أحلام ذوي المشاريع التنويرية السينمائية.
عبد الله المحيسن السينمائي الأكاديمي خاض الغمار بعزْم وتضحية برغد العيش. أمعن تحصيلاً متقدِماً في دراسة الإخراج في بريطانيا والولايات المتحدة مع أنه ليس في المملكة العربية السعودية حضور سينمائي، بل حتى ليس في مدن المملكة حينها دُور سينما. وعلى هذا الأساس؛ لماذا هذا التوجه مع أن الفرصة هي لمَن يتخصص طبيباً أو مهندساً أو وكيل شركات أجنبية، ثم يتضح أن هذا الشاب الذي تلقَّى تعليمه في الجامعة الأميركية في بيروت، وعاش بالتالي أزهى سنوات هذه العاصمة الصغيرة التي هي أشبه بمنارة فكرية نقيض الانطفاء المتدرج لها بعد ذلك، وفي هذه الأيام أصابته فاجعة وجدانية بعد الذي فعله بعض اللبنانيين من لاعبين ومتلاعبين وميليشيات بهذه المدينة التي أدموها، وثقبوا برصاصات أسلحتهم وجْهها العمراني الجميل، وأمعنوا تشويهاً برونقها الفكري، وتمددوا في كل الاتجاهات ليشعلوا الوطن المغلوب على أمره حرائق وقودها التعصب المذهبي والعنف. لا سامح الله الفاعلين.
هذا الذي حصل للبنان وعاصمته ترجمه سينمائياً خير ترجمة عبد الله المحيسن من خلال فيلم صنعه إنتاجاً وإخراجاً بمشاعر فاقدي أعزائهم. وبشهادة كل الذين تسنّى لهم مشاهدة الفيلم، ومِن بينهم الرئيس الصديق الدكتور سليم الحص أكْبروا في عبد الله المحيسن هذا التحسر الوجداني على بيروت وكما لم يفعل ذلك سينمائيون لبنانيون. وبعدما لقي الفيلم في «مهرجان كان» ومهرجانات دولية وعربية أُخرى ترحيباً وجوائز، افترض الأخ عبد الله أن ما أراده من الفيلم ترجمة لمشاعره سيكون أمثولة لمسؤولين وشعوب فلا يعبثون بأوطانهم ومدنهم على نحو ما فعل بعض اللبنانيين مختارين أو مدفوعين ومضطرين. ثم يأتي الإعصار السوري قبل سبع سنوات يليه اليمني فالعراقي فالليبي فالسوداني يعكس انطباعاً بأن الأوطان هي لمستحقيها من الحكام والمحكومين وليست مَضافة أو مرتعاً للنزوات السياسية والتشبث بالسلطة، ولو كان ذلك على حساب الواجب الوطني وطمأنينة المواطن ولقمة عيشه واستقراره.
بعد فجيعة عبد الله المحيسن بالمدينة التي لقيت أبشع حالة اغتيال كما حالة اغتيال رفيق الحريري وكوكبة من الناس الطيبين، جاء ما هو أعظم متمثلاً بالغزوة الصدَّامية للكويت. وكان بركان المشاعر المحيسنية الوجدانية لم يهدأ بعد ويتم وعلى وجه السرعة إنجاز الشريط الذي كان اسماً على مسمى، وهو «الصدمة»... أمثولة أُخرى برسْم مَن يعتبر رغم أن العِبَر كثيرة.
عالم عبد الله المحيسن أرحب سينمائياً من توأمه اللبناني جورج نصر، مع فارق أن المحيسن فتح روافد تجارية راقية تصب في نهر نشاطه السينمائي، وبذلك أنتج وأخرج المزيد، ودائماً ضِمْن رؤيته بأن السينما هي في جانب منها للتسلية والاستمتاع إنما بعد أن يكون الواجب الوطني أخذ حقه. مثل هذه الروافد لم تتحقق للتوأم اللبناني جورج نصر، ربما لعدم التنبه، وربما لأن الوضع الاقتصادي في السعودية وسائر دول الخليج يحقق لأصحاب المشاريع الرائدة والحالمة بعض مبتغاها. ولذا؛ اقتصر الذي ناله التوأم اللبناني على وصول فيلمه اليتيم «إلى أين» إلى «مهرجان كان» إنما بعدما كان قطار حياته وصل إلى المحطة ما قبْل الأخيرة. ثم رحل مأسوفاً عليه وموضع تقدير مغامرته الوطنية التي لم تكتمل في حين توأمه السعودي على موعد مع أعمال تتم إنتاجاً وإخراجاً في زمن الطفرة السينمائية والترفيهية في المملكة. والله المعين.