د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

«لا تكرار لذلك أبداً»

يصادف اليوم إحياء منظمة الأمم المتحدة لليوم الدولي لذكرى ما اصطلح على تسميته بضحايا «الهولوكوست»، أي محرقة اليهود. وطبعاً أول رسالة من تخصيص يوم دولي لهذه المسألة هو عدم إنكار حدوثها وتكريسها واقعةً تاريخيةً مؤكدةً. أي أننا أمام رد أممي على الذين يشككون في حدوث المحرقة من عدمه، أو في تهويله من عدمه. بل إن اختيار تاريخ إحياء هذه الذكرى، الذي يوافق اليوم الذي حرر فيه الجيش السوفياتي في عام 1945 أكبر معسكر من معسكرات النازية، لنقطة إضافية تربط بين الجاني والضحية.
ويقول الأمين العام للجمعية العامة للأمم المتحدة، في كلمته الخاصة بهذه الذكرى التي تلتئم اليوم، «من الخطأ البِين اعتبار محرقة اليهود مجرد نتيجة لجنون مجموعة من النازيين المجرمين. بل على العكس، لقد كانت المحرقة تتويجاً لآلاف السنين من كراهية اليهود، واتخاذهم أكباش فداء، والتمييز ضدهم، وهو ما نسميه اليوم معادة السامية».
لقد أطنبنا في التركيز على هذه النقطة، كي نبرز الاعتراف الأممي الذي تحظى به إسرائيل، ونفسر أيضاً ما كسبته من هذا الاعتراف ومن تذكير العالم سنوياً بتجربتها المؤلمة.
في الحقيقة قضيتنا ليست في الاعتراف أو في إنكار وجود ضحايا «الهولوكوست» نفسها، ذلك أننا نعتبر أن مثل هذا الطرح لا جدوى منه، ويشبه النقاش البيزنطي، بل إن طرح المسألة من هذه الزاوية تحديداً مشكلة في حدّ ذاتها.
لذلك فإن أكثر ما يهمنا هي الكلمة التي وردت أثناء إقرار هذا اليوم الدولي الخاص بمحرقة اليهود، وهي مقولة حاولت تبرير تخصيص مثل هذا اليوم، وتضمنت نوعاً من الاتفاق على أنه «لا تكرار لذلك أبداً». بمعنى آخر، فإن المجتمع الدولي الممثل في الأمم المتحدة أراد أن يقول إنه يجب أن نتذكر هذه المحرقة سنوياً، كي لا تتكرر في المستقبل، أي كي لا ننسى وتبقى محرقة اليهود حيّة.
أيضاً يبدو لنا أنه لا معنى للتساؤل عن سبب التركيز على هذه المحرقة، والحال أن التاريخ يعج بالمحارق والآلام والأحداث التي عرفت إبادة شنيعة ضد الإنسانية، لأن طرح هذه التساؤلات يعني عدم التقدم في فهم توازنات العالم، باعتبار أن الأطراف القوية أو المدعومة هي التي تفرض أجندتها، وهي أيضاً التي تكتب التاريخ وتُحدد الأحداث، حسب ميزان أصحابها في العالم اليوم.
ولكن يبدو لي أننا نحن العرب والمسلمين نستطيع أن نتفاعل مع هذا اليوم الدولي بذكاء وعقلانية، والانخراط في اعتماد خطاب عدم التطبيع مع الكراهية بشكل مبدئي وكلي؛ ذلك أنه لا توجد محرقة واحدة، وليست المعاداة ضد السامية فحسب، بل ما يجب أن يركز عليه العالم هو الانطلاق من مثل هذه الذكريات للخوض فيما يجب أن نخوض فيه. بل إن الطرف الرابح رمزياً وسياسياً من إحياء هذه الذكرى؛ يجب أن نُظهر نحن أيضاً للعالم بشكل ذكي ومعقلن ومبرهن وموضوعي، كيف أنه لم يستفد من درس المحرقة، وأنه يعيد إنتاجها ضد الفلسطينيين بأشكال مختلفة. أي أن الطرف الحريص على عدم «تكرار ذلك أبداً»، لا يتوانى عن تكرارها في صراعاته بأشكال مختلفة، مع الأخذ بعين الاعتبار السياق الراهن ومدى تطور خطاب حقوق الإنسان؛ على الأقل على مستوى الخطاب.
إنّ العالم يعيش على وقع محرقة أحياناً تتعالى ألسنتها وأحياناً تتراجع لتختبئ ثم تعود، إذ التوتر على أساس العرق والدين قائم الذات، ويمثل محركاً رئيسياً للعلاقات الدولية والعلاقات الجيوسياسية.
من جهة أخرى، فإن تخصيص يوم لإحياء ذكرى ضحايا «الهولوكوست» بقدر ما يمثل مصدر تكسب سياسي متواتر لإسرائيل، فإنه في الوقت نفسه قد ينقلب حسب الأحداث ووفق سلوك إسرائيل مع الفلسطينيين تحديداً إلى مصدر خسارة ومظهر تناقض. فهي أكثر طرف مطلوب منه أن يجسد من خلال ممارساته أنه لا تكرار لذلك أبداً.
أيضاً نعتقد أن صورة الإنسان العربي المسلم تعاني اليوم من محرقة رمزية وأحياناً مادية. ولعل انخراط دول كثيرة في ظاهرة الفوبيا من العرب والمسلمين إنما هو محرقة رمزية من نوع آخر تعكس مظهراً قوياً من مظاهر التحريض على العرب والمسلمين، وسجنهم في صورة الإرهابي والمعادي لما يختلف عنه معتقداً وعرقاً.
في مثل هذا اليوم من المهم أن يرفع العالم صوته عالياً، وأن ينظر في عيني الفكرة جيداً، ويعيد كتابتها على نحو موسع ينتصر للمعنى الأم المتجرد من السياسي لنكتب: لا تكرار لذلك ولا لغير ذلك أبداً، وللجميع على حد السواء.